الإنسان في تاريخ الأفكار(صلاح الدين الزربوح)
–I–
مفهوم الإنسان من المفاهيم المركزية في تاريخ الفلسفة والمذاهب الفكرية المتعددة والمتباينة، والذي عرف باستمرار حضورا مباشرا كشعار لمناهضة الاستبداد والقهر والاستلاب من جهة، وأداة لترسيخ خطاب المطلق والكلي والروح الشاملة… من جهة أخرى. إلا أنه من الناحية المذهبية والنظرية فمفهوم الإنسان لم يتكون إلا في سياق إيديولوجي وفكري حديث ومعاصر. ومن ثمة فإننا لا نروم من وراء هذا المقال إلا رصدَ أهم المحطات الأساسية لبروز الفرد أو الإنسان أو الشخص، وذلك عبر انتقاء طائفة من المرجعيات المعرفية والفلسفية القديمة والحديثة والمعاصرة. وكل ذلك وفق منظور جدلي، أعني أن اللاحق يقرأ السابق ثم يتجاوزه نحو تركيب جديد. وهذا يجعلنا نبتعد عن المعنى التراكمي للمعارف والنماذج… وعلى هذا فإن تاريخ الفلسفة هو تاريخ جملة من الفلسفات المختلفة والمتباينة والتى تنصهر في وحدة جامعة للّحظات السابقة ضمن فلسفة واحدة.
لا شك أن المؤرخين والفلاسفة أكدوا على أن حكماء الطبيعة، طاليس وأنكسمندرس وأنكسيمانس وأنكساغوراس ولوقيبوس. لم يعملو إلا على البحث في مبادئ العالم والوجود. فتارة يسعى الأوائل إلى تشخيص المبدأ والأصل في الماء أو في اللانهائي أو النار. وتارة ذهب المتأخرون إلى أن مبدأ الوجود يكمن في الوجود المتغير مع هراقليط، والوجود الثابت مع بارمينيدس. أما فيثاغوراس فقد نظر إلى الأشياء نظرة رياضية وعددية والتى انعكست على مذهبه الأخلاقي والديني.
ومن هنا فإن اللحظة الأولى من التفلسف إنما ظهرت في البحث في الطبيعة، حيث تحول سؤال الطبيعة وفق المنظور الجدلي /التركيبي، إلى موضوعين: الثبات والصيرورة. (راجع كتاب: ربيع الفكر اليوناني، عبد الرحمان بدوي). إنه من الجدير بنا -والحال أن مقصدنا من هذا السياق تعقب إرهاصات مفهوم الإنسان في تاريخ الفلسفة-أن نسجل غياب الإنسان كمبحث في النزعات الفلسفية ذات المنحى الحسي الطبيعي (طاليس/ أنكسمانس..)، وأيضا عند المنحى ذي البعد التجريدي-المثالي (بارمنيدس/ فيثاغوراس..) حتى حان الوقت لميلاد الانسان واكتشافه كذات وكفرد مع سقراط (ت.399.ق.م)، الذي وظّف منهجه التوليدي (المايوتيقا) تحت مقولة: “أيها الانسان اعرف نفسك بنفسك. فالحقيقة داخلك لا خارجك”. إذ بهذه المقولة المفعمة بدلالات ورموز مختلفة. سطّر سقراط منهجية في الفصل بين القيم والاشياء (أي بين الجمال كقيمة والشيء الجميل)، والتي سيعمل تلميذه أفلاطون على استثمارها لبناء نظرية المُثل. والغريب أن هذا الفيلسوف الأصيل وخصمه التاريخي السفسطائي (بروتاغوراس وجورجياس وهيبياس وأنتيفون.). قد لفتوا انتباه الشراح والفلاسفة اللاحقين من القدماء والمعاصرين، بتساؤلاتهم عن الإنسان وعلى الإنسان، بغض النظر عن المنطلقات المرجعية المعبرة عن ذلك. ولعل الفيلسوف الألماني هيجل أولى أهمية كبيرة للحركة السفسطائية لدرجة أنها حركة تمثل عصر التنوير من خلال شعار: “الإنسان مقياس كل شيء” أي أن له الحرية في التساؤل والتفكير، مما أفضى إلى ترسيخ الفردية التي هي أساس الشخصية ( ” ربيع الفكر اليوناني “، عبد الرحمان بدوي).
هكذا فميلاد الإنسان لم يكن إلا في ضوء هاتين المرحلتين أو الطوريْن (سقراط والسفسطائي) من خلال طريقين: طريق التوليد واليقين مع سقراط، وطريق الرأي والإحساس مع السفسطائية ( محاورة ثياتيتوس أو العلم لأفلاطون)، أنهما نهجين متصارعين. إن حضور هذه الخصومات الفكرية قد امتدت الى الاغتيال السياسي لسقراط (399.ق.م) في النص الافلاطوني بايقاع سريع وقوي أكثر من النص الأرسطي. وهكذا تم الكلام عن الإنسان في الخطاب الأرسطي عبر علاقته بالعالم الخارجي والداخلي ..، وعلاقة الإنسان: كنفس بالعقل والجسد، مما أسفر عن إشكالات عويصة تندرج ضمن مباحث الميتافيزيقا.
تلك الوحدة السالفة الذكر، انشطرت الى وحدات، وعلة ذلك ترجع الى عوامل مختلفة منها غزوات الإسكندر الأكبر والتقاء الثقافة اليونا نية بالثقافة الشرقية التي افقدت الإغريق سمة الانسجام الذي طالما كان هاجسهم، بوعي او بدون وعي، وفي هذا السياق برزت فلسفات تنحو نحو البحث عن الإنسان، لكن عبر وسائط منها الفضيلة والألم والسعادة والتقوى…عند الابيقوريين والرواقيين ( ” تاريخ الفلسفة اليونانية” ماجد فخري)، على اعتبار أن الفلسفة هي ” فن الفضيلة والسعادة باستعمال العقل”
–II–
إن تحولات الانسان والكون إنما تعود الى مستجدات ومعطيات موضوعية وذاتية، ومن أهمها المعطى الديني/المسيحي والإسلام فظهور نزعات التدين في الفرد / الشخص ..قد ساهمت بقوة في بناء رؤية للإنسان عبر المطلق (الله او المبدأ). فأضحي الإنسان هو ذلك المخلوق العاجز والمذنب و” الذي لا يملك أية طهارة، ولا يتمتع بأية فضيلة، ولا تنطوي نفسه على أية براءة. إنه عند أصحاب “نظرية الخطيئة الأولى ” مخلوق ساقط تعميه شهوته الدنيئة” (راجع:”مشكلة الانسان”، إبراهيم زكريا).
وهكذا فالإنسان لا يعرف نفسه، بل إن وجوده مجازي لا غير. لأنه متعلق بالله/ الخالق. فالعالم بأسره على حد كلام القديس أوغسطين “أثر الله”. كما أن الإنسان في الدين الإسلامي هو ذلك الكائن المجبر على تصرفاته وأفعاله ومسئولياته، فأفعاله غير مخلوقة. وهناك من يرى من الفرق الكلامية: أن الانسان هو الحرية واستعمال العقل في تقريب الفعل الإنساني مع انه يظل رهانه هو رهان إيديولوجي –ديني (المعتزلة).
إن فلسفة الدين، المسيحية والاسلام، بصفة عامة، هي فلسفة الذات المطلقة، أعني أن خطاب الإنسان هو في الحقيقة مؤسّس على غيابه واندثاره. مما يُفضى إلى مشروعية ما أكده حسن حنفي عن غياب البحث عن الإنسان في تراثنا القديم. وهذا هو منعطف الفكر الأوربي في تحويل الدين الى تدين فردي وشخصي، وبالتالي قابلية الدين إلى تأويلات وتفسيرات (مارتن لوثر…) تتجاوز الوصاية المبنية على النظرة الأحادية للمقدس التي هي نفسها جزء لا ينفصل عنه، وكذا محاولات هيجل الى تخليص المسيحية من اللامعقولات والشوائب العالقة بها.
رسم العقل الفلسفي الغربي طريقه نحو ذات الإنسان من اعتباره يشك ويتصور وينفي.. وفق مقولة ديكارت، والذي تعرض بدوره لانتقادات كبيرة بسبب النزعة الالية/ الميكانيكية في عصره. حتى مجيء كانط الذي قام بنقد ملكة العقل وإعادة رسم حدوده، أو بالأحرى وضع الدين في حدود العقل.
إن الإنسان (الكانطي) هو إنسان ذو بعد نظري خالص وبعد عملي.. وذو بعد ذوقي..
ومن هنا ازدادت وثيرة التفلسف والتقدم على السواء.. فكان النقاش السياسي حول الإنسان القائم في وجوده على الخاصية الأهم وهي الشغل والملكية. إذ نشأ بذلك سلب الحقوق والملكيات وقهر هذا الكائن وحصره في زاوية الحرمان…ورُسمت نتيجة لذلك خطاطات لحقوق الانسان وواجباته. وكانت بالتالي مقدمة لظهور النزعات الإنسانية بأشكلها المختلفة والتي شكّلت أساس ترسيخ مبادئ الانسان والذات. اذ صارت الوجودية الإنسانية عند سارتر تتأسس على الإرادة والمسوؤلية من حيث كون الانسان مشروع ماهيته الحرية فهو حرّ في اختيار من يكون ويتحمل مسئولية اختياره.. واختياره هذا اختيار بأبعاد إنسانية لا تحضر فيه الأبعاد الأنانية مطلقا.
وهذا ما ذهبت إليه الشخصانية مع محمد عزيز الحبابي حيث اعتبرها ” قوة مبادرة واختيار، يلتزم ويندمج وينسجم، يشعر فيقبل أو يرفض، تلك هي الخصائص اللازمة للاعتراف بان للشخص استقلال ذاتي. “(راجع:” الشخصانية الاسلامية ” محمد عزيز الحبابي).
إن ترسيخ مبادئ العقلانية والعقلنة والحرية.. كتحديد لمفهوم الانسان قد انهار بكامله فأضحي الفكر المعاصر يبحث عن المخفي والمستور الذي هو المحرك الحقيقي له فبدا اللاّشعور والوهم والبنية والتاريخ.. يحيلون على الانسان بوسائط مفاهمية. كما كان يحيل العقل والفردية على هذا الكائن العاقل قبل ذلك.
–III–
لقد عرف عصر الأنوار (القرن 18) بطابعه المادي المفرط، وذلك إنما يعود إلى هيمنة النزعة الميكانيكية من قبل نيوتن المؤمن بثنائية المادة والحركة. وهو الذي ساهم في رسم معالم القرن 19. فالمادة في عصر الأنوار هي الأصل، حتى بالنسبة للإنسان يمكن ردُّ عواطفه إلى تفسير فيزيولوجي أعني الاعتماد على وظائف الأعضاء، بل ذهب “دين بالي “الى تشبيه الطبيعة بالساعة وان العقل آلة، ومادام العقل يحتل حيزا في الجسم فهو مادي.
كما طبع ذلك التصور الآلي /المادي المجال السياسي مع مونتسكيو. هذا الأخير الذي فسّر الأنظمة والقيم الأخلاقية تفسيرا جغرافيا.. ” فمعلوم أن دمج الإنسان في الطبيعة، وإرجاع الفكر الى المادة كانا على رأس الأهداف التي من أجلها تبلورت فلسفة الأنوار خلال القرن 18. والمادية عند فيورباخ تعرف نفس الإيقاع الميكانيكي الذي لاحظناه من قبل عند ماديي القرن 18 لا لشيء إلا لأنه هو الآخر يدعو إلى ضرورة: “التمييز بين الأصل والترجمة” حيث “الأصل” هو الطبيعة والمادة، بينما افكارنا وتصوراتنا ما هي إلا “ترجمة” تعكس العالم الخارجي بأمانة”. (راجع: “الفكر الإسلامي والفلسفة” محمد عابد الجابري).
بيد أن التطور المتحقق في العلم الدقيق قد انعكس على الرؤية الفلسفية للفرد والإنسان، بحيث صار مع ماركس وانجلز هو الفلاح والقن والعبد والبروليتاري والبورجوازي والراسمالي .. أي ان الانسان لم يعد مادة ثابتة بل فعالية متغيرة. فلمعرفة الانسان أضحي بنا تشريح العلاقات الاجتماعية. وعليه أصبح الإنسان لا يعرف إلا بوسائط منها الجدل، البنية التحتية والبنية الفوقية…
إن استمرار التطور الهائل في العلوم الانسانية وفي العلوم الدقيقة (الفيزياء والرياضيات…) على السواء قد أحدث رجّات قويّة في بناء رؤيا للفرد والتاريخ والطبيعة. وكان التيّار البنيوي (نشأته كانت مع فردنان دي سوسير) من أهم الخصوم الإيديولوجيين للماركسيين على الخصوص. اذ تمكن هذا التيار من إحلال البنية محل الانسان، والسكون محل الحركة، والعناية بالعلاقات بدلا من التحولات..
ولعل من أبرز القراء البنيويين للنص الماركسي هو الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير.. مما يجعلنا ونحن نتعقّب تحولات مقولة الإنسان عبر تاريخ الفلسفة والأفكار نُسجل أن الفكر الحديث هو أيضا يتحدث عن الإنسان عبر بوسائط هي: التاريخ والمادة والآلية والبنية وموت المؤلف.. لقد أعلنت التيارات البنيوية عن موت الإنسان واستبداله بالبنيات اللاشعورية للعقل مما ينفي أية مبادرة للفرد حسب ليفي ستراوس (أهم مؤلفاته المؤثرة في الفكر الغربي المعاصر: الأنثروبولوجيا البنيوية. ومدارات حزينة. والفكر المتوحش..).
وهذا ما جعل هذا الانثروبولوجي الفرنسي الكبير يكشف ” هوية واحدة للعقل البشري، ثابتة عبر العصور والمجتمعات وهي التي تجعل الجنس البشري واحدا ومتساويا من حيث الإمكانيات العقلية مهما تعدّدت واختلفت اشكال ثقافته” (راجع كتاب: موت الانسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، عبد الرزاق الدواي).
كما سار أيضا الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو على منواله في نزع المبادرة الفردية والمسؤولية الذاتية (فلسفة الاختلاف) تحت لواء “أركيولوجيا المعرفة” وتشّكلات الخطاب المعرفي.