تقديم كتاب:المثقف الائتماني وواجب المرابطة المقدسية(هشام لعشوش)
إن أول من استخدم عبارة “المثقف العضوي” هو المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي؛ كان ذلك في بداية القرنِالتاسع عشر في سياقِ تأسيسه للمسؤوليةِ التاريخية للنخبة المثقفة تجاه مجتمعاتِها بشكلٍ عام…
بحسب غرامشي، فإن هذا المثقف يمثل تعبيرا متقدما عن الوعي، بما توفر لديه من قدرات فكرية، وما حازه من إمكانات معرفية لم تتحقق عند غيره، تؤهله للنظر الحصيف المحكم في قضايا وطنه ومجتمعه، جمعا بين استدعاءِ الماضي بأحداثه، والتفاعل مع الحاضرِ بتحدياته، واستشراف المستقبل بانتظاراته وتطلعاته.
وهو مع تقدمه هذا -وهنا يميز بين المثقف العضويِ والمثقف التقليدي-، عليه أن يبقى مندمجا منغرسا في عمق هموم وانشغالات وطنه، موجها لبوصلته المجتمعية، غير منكفئٍ ولا منعزل في أبراج علومه ومعارفه…
إن حديثَنا في هذا الكتاب عن مسؤولية المثقف التاريخية والحضاريةِ، لا كما تصورها غرامشي، ولا كما طرحها وانشغل بها المفكر الألماني “هانز يوناس”(1)، بل هو حديث ينطلق من داخل سياقنا المعرفي والثقافي والحضاريِ، ويتأسس من ذاتيتنا الممتدة، ومن عميق تصوراتِنا الإيمانيةِ الخالدة بإنسانيةِ الإنسان، ومن أصالة مجالنا التداولي.
إنه حديثٌ عن مسؤولية المثقف الائتماني، التي تتجاوز البعد الاجتماعي المحدود بحدودِ القبيلة والعرق والطبقة والوطن، إلى آفاق متراحبةٍ تسعُ الإنسانية كلّها، وتتجاوز دائرة المادة إلى سمو المادة والروح معا…
المثقفُ الائتماني، موضوع نعمق فيه النظر على ضوء التصوراتِ التي بسطها الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، ضمن مشروعه الفكري والفلسفي والأخلاقي المتفرد.
ولما كانت المناسبة شرطاً، فإن سياق هذه الندوة ومناسبتها -والتي أردناها لحظة اعتراف وتعريف بجهود واحد من أهم رواد ومجددي الفكر الفلسفي الإسلامي على الإطلاق-، هو التفاعل مع الأحداث الجارية في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، من طغيان وبغيٍ تقترفه عصابات الصهيونية المجرمة في حق الإنسان والتاريخ والجغرافيا والتراث والهُويةِ الإسلامية برمتها..
وإذا كانت الجغرافية تاريخاً ساكناً، والتاريخُ جغرافية متحركة؛ فإن هذه الأحداث والتحولاتِ المفصلية في تاريخ الأمة والعالم، والتي تسعى لتغيير الجغرافية الفلسطينية لتشويه التاريخ المقدسي، تُسائلُ دور المثقف الائتماني المرابط ومسؤوليته أمام هذه الاعتداءات، باعتباره قائداً رمزيا يعُولُ العقول، ويحمل لواء الحقيقة مهما كلف الثمن، ليصون الوجودَ المعنوي للأمة من المسخِ والضياع، ويعزز أسباب نهوضها وعودة تأثيرها في مسرح العالم.
إن مسؤولية المثقفِ الائتماني في هذا السياق، مسؤولية عظيمة جسيمة، إذ ليس الأمر مجرد اختياراتٍ وآراء فكرية، وإنما هو دينٌ من الدين، وقيامٌ بحق الانتماءِ لهذه الأمة العظيمة، وتجسيدٌ لمقتضيات الشهود الحضاري، وحفظ للوجودِ كلِّه من تسلط إزالةِ الحدودِ ومحوها… كما عبر عن ذلك الفيلسوف طه عبد الرحمن.
هذا؛ ونظرا للأثر الطيب الذي خلفته هذه الندوة لدى جمهور الباحثين والمتخصصين من أطراف العالم، واستجابة لطلب العديد من المهتمين بالموضوع، وتعميما للفائدة، وحفظا للجهود المعتبرة، وإبقاء للأثر المحمود؛ فقد آثرنا جمع ما تيسر من مساهمات السادة المشاركين ضمن هذا الكتاب، والذين أتوجهُ إليهم بخالصِ شكري وامتناني، وهم:
د. أحمد الفراك_ د. عبد الملك بومنجل_ د. البشير لسيود_ د. بدران بن لحسن_ د. محمد نافع العشيري_ دة. نورة بوحناش_ د. إدريس مقبول_ ذ. معتز أبو قاسم_ د. سعيد بنتاجر_ د. بلال العشري
كما أشكر الأساتذة المقرِّرين لأشغال هذه الندوةِ باللغات: العربيةِ: (ذة. هدى لحكيم بناني) والفرنسيةِ: (د. عياد بوكوراين)، والإيطاىيةِ والإسبانيةِ: (د. رضوان ناصح)، والإنجليزيةِ: (د. حمادي نايت الشريف)، والتركية: (د. أحمد محمود كوزون)، والألمانية: (ذ. الحسين الصياغي)، والكردية السورانية والكردية الكرمانجية: (د. عيماد گوانى).
ولا يفوتني أيضا شكر أعضاء المركز، وكذا القائمين على أنشطته العلمية والثقافية.
والحمد لله رب العالمين