الأزمة في فرنسا: حين يصنع الهامش السياسة(محمد تورشين)_1_
لم يكد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يخرج من أزمة نظام التقاعد، حتى وجد نفسه أمام تحد أشد خطورة، تحد مفتوح على احتمالات عديدة، تمثل في اشتعال أحياء الضواحي نتيجة مقتل فتى برصاص شرطي. وكان الرئيس قد أمهل نفسه عقب انتهاء أزمة إصلاح نظام التقاعد مئة يوم حتى 14 يوليو/تموز من هذا العام، من أجل “تهدئة” البلد ومن بعد استكمال مسار ولايته الثانية.
غير أن ماكرون اليوم في مأزق جديد مع تواصل أعمال العنف والشغب في أحياء الضواحي بمختلف أنحاء فرنسا بعد مقتل الشاب نائل البالغ من العمر 17 عامًا. ويبدو التعارض صارخًا بين مشاهد بلديات ومدارس وحافلات ترام تحترق، وصور ماكرون قبل ذلك بيومين يحيي الحشود ويخالطها في الأحياء “الحساسة” بمدينة مرسيليا في جنوب فرنسا.
يجتاز الرئيس إيمانويل ماكرون في هذه الأثناء الاختبار الثالث مع اضطرابات العنف المدني ومخاطر حصول “انتفاضة الضواحي الثانية”، وذلك بعد مواجهته احتجاجات السترات الصفراء، والاحتجاجات حول نظام التقاعد. وهذه المرة يجد ماكرون نفسه أمام تحدي الحفاظ على هيبة الدولة واحترام النظام العام من جهة، وضرورة الحفاظ على التماسك المجتمعي ومستقبل الشباب المهمش من جهة أخرى.
ومما لا شك فيه أن الوضع مفتوح على كل الاحتمالات، وستضع التداعيات المنتظرة البلاد على المحك، وستنعكس على المشهد السياسي والاجتماعي المتنازع عليه بين أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار.
دوافع الاحتجاجات في الضواحي
تمر فرنسا بمرحلة دقيقة من تاريخها خلال العقود الأخيرة، وقد تكون الأخطر بعد انتفاضة مايو/أيار 1968؛ إذ تعيش تفككًا لنفوذها في الخارج ولاسيما في القارة الإفريقية، ثم أصبحت شاهدة على تفكك المجتمع جراء سياسات سوسيو-اقتصادية تترتب عنها احتجاجات عميقة للغاية طيلة الأيام الماضية.
وبين عشية وضحاها صارت فرنسا حديث وسائل الإعلام الفرنسية والدولية بسبب الاحتجاجات العنيفة التي وقعت بعد مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية على يد موظف أمن. وتبين أن عملية القتل لا مبرر لها سوى غلبة العنف المؤسساتي الأمني على شاكلة ما يجري في الولايات المتحدة الأميركية. ويحدث هذا بعد إجراء تعديلات قانونية في العام 2017 تسمح لرجال الشرطة بإطلاق النار على الأشخاص في حالة عدم استجابتهم لأوامرهم. وقد تحول الوضع إلى احتجاجات عنيفة في عشرات المدن الفرنسية؛ حيث دخلت الحكومة في نقاشات عميقة لفرض حالة الطوارئ، ويعتبر هذا التحول ثالث منعطف سياسي واجتماعي واقتصادي خطير تواجهه فرنسا خلال السنوات الخمس الأخيرة.
يعتقد بعض المحللين أن مقتل الشاب نائل جاء نتيجة سوء المعاملة غير العادلة بل والعنصرية من طرف الشرطة إزاء ما يُعرف بالجيل الثاني والثالث، أي أبناء وأحفاد مهاجري دول شمال إفريقيا وكذلك مهاجري دول الساحل أو غرب إفريقيا. وبالتالي أصبح مغاربيو فرنسا هم الأميركيين من أصول إفريقية عند المقارنة بين الشرطة الفرنسية والشرطة الأميركية.
ولم تتفاجأ الدولة الفرنسية من هذه التطورات السلبية؛ إذ كانت قد حذرت منذ أيام من إمكانية توسع رقعة الاضطرابات في مجموع فرنسا. وهذا الأمر ليس بالجديد على تقارير الاستخبارات الفرنسية التي تنبأت بتعبئة شعبية قوية قد تؤدي إلى انفجار الوضع الاجتماعي ونسبت ذلك إلى تراجع القدرة الشرائية وارتفاع أسعار الطاقة وانعكاسات ذلك الخطيرة على الأنشطة التجارية والحرفية، يُضاف إلى ذلك خطة الحكومة الساعية لإصلاح نظام التقاعد والتي تعارضها شرائح عمالية ومدنية وسياسية كثيرة.
تحدث محمد كمات (من حزب الجمهوريين)، وكان ضيف برنامج “نقاش” في قناة “فرانس24” عن تركيبة سكان الضواحي، فأكد أن هناك اكتظاظًا سكانيًّا في أحياء بُنيت في الستينات والسبعينات وفق تصور يساري. وهذه الأحياء ينحشر فيها عدد من السكان يعد بالآلاف، ويصل طول البناية الواحدة إلى عشرين طابقًا، وجميع سكانها من الطبقات الهشة ممن لم تتوافر لهم وسائل التعليم المناسبة؛ فهم تقريبًا من آباء وأمهات كانوا عاطلين عن العمل، أو عملوا في مهن بسيطة مما انعكس سلبًا على تربية أبنائهم، وهذه الوضعية تؤثر بشكل حتمي على حظوظهم في الحصول على تعليم جيد ومن بعد مستوى وظيفي رفيع.
وفي هذا السياق، كان وزير الداخلية السابق، كريستوف كاستانير، قد أعد في يونيو/حزيران 2020، خططًا لإصلاح الشرطة، وشمل ذلك حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال، كما شمل إصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة، وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقًا مع العنصرية داخل الجهاز. لكن نقابات الشرطة احتجت على هذا الإصلاح وهو ما عجَّل بإصدار قرار بتعيين جيرالد دارمانان بدلًا من كاستانير، في تعديل وزاري تم بعد شهر من صدور تقرير كاستانير.
إن هذه الاحتجاجات ليست بالجديدة على فرنسا، لكنها كانت تتراجع في كل مرة من دون حلول جوهرية، وكانت احتجاجات مماثلة قد حدثت في الولايات المتحدة وفي بريطانيا في الستينات وحتى في الثمانينات، وقد أدت إلى إصلاحات عميقة داخل أجهزة الشرطة في هاتين الدولتين، لذلك فإن المراقبين يتساءلون في فرنسا: لماذا لم يحدث إصلاح مماثل على مدى السنوات الأربعين الماضية؟
وإذا كان التعدي على الأملاك العامة، وأعمال النهب والسرقة وإشعال الحرائق أمرًا مرفوضًا بطبيعة الحال، لكن لا ينبغي النظر إلى ذلك الجانب فقط، والاكتفاء بمحاكمة عادلة لشرطي فرد بات يحظى الآن بحملة داعمة تجمع له التبرعات، لأن ذلك الموقف نوعٌ من التضليل.
على مدى السنوات الماضية، ظل عنف ضواحي كبرى مدن فرنسا -ولاسيما باريس- حاضرًا في واجهة التوترات الاجتماعية التي تشهدها البلاد، ففي ظل خصوصيتها الديمغرافية، وتركز أجيال من أبناء المهاجرين فيها، فقد شكَّلت أحداث الضواحي وصدامات أبنائها مع الشرطة تعبيرًا عنيفًا عن رفض مجتمعي للتهميش الاجتماعي ولسياسات الحكومات المتعاقبة وخطابات جزء من الطبقة السياسية بشأن مجتمع أبناء الجاليات لاسيما قوى اليمين المتشدد؛ حيث يعاني شباب الضواحي الباريسية -الذين ينحدر معظمهم من إفريقيا- من ارتفاع معدل البطالة والفقر وانعدام الفرص الاقتصادية.
طلبت الأمم المتحدة، من فرنسا معالجة مشكلات العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن، وذلك بعد إقدام شرطي على قتل فتى بالرصاص، وقالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، رافينا شمداساني، خلال مؤتمر صحفي في جنيف: “لقد حان الوقت ليعالج هذا البلد بجدية مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن”.