الأزمة في فرنسا: حين يصنع الهامش السياسة(محمد تورشين)_4_
السياسات الحكومية إزاء أزمة الضواحي
منذ سبعينات القرن الماضي اعتمدت الحكومات الفرنسية مخططات لإصلاح الضواحي والأحياء الشعبية. فمن جورج بومبيدو إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، تنوعت الإستراتيجيات والمخططات التنموية بهدف إدماج الضواحي وسكانها في النسيج الاقتصادي والاجتماعي الوطني. ولا شك أن أعمال العنف التي تندلع بشكل متكرر فيها أبرز دليل على أن السياسات المتبعة من قبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة لم تأت بثمارها رغم الأموال الهائلة التي صُرفت لتحسين أوضاع الناس وفتح أفق جديد لسكانها الذين ينحدر غالبيتهم من بلدان إفريقية وعربية(16).
الضواحي الفرنسية يربطها تاريخ مديد مع الهجرة؛ إذ بُني معظمها من أجل استقبال عشرات الآلاف من العمال المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد غداة الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وعاشوا فيها مع عائلاتهم وأولادهم الذين باتوا يعمرونها حتى الآن، وأصبحت ترمز اليوم إلى العنف والتدني الاجتماعي، في العام 1977 أطلق الرئيس فاليري جيسكار-ديستان أول “مخطط” لتحسين العيش في الضواحي باسم مخطط “السكن والحياة الاجتماعية”. وكان الهدف منه إدماج أكثر من 50 ضاحية شعبية في المجتمع الفرنسي عبر تحسين الصورة المعمارية والهندسية للمباني والشقق فضلًا عن دعم الحياة والعلاقات الاجتماعية بين سكان تلك الأحياء(17).
وفي العام 1981، أنشئ ما يسمى “المناطق ذات الأولوية في مجال التعليم” من قبل الرئيس فرانسوا ميتران، وكان آلان سفاري، وزير التربية آنذاك، هو الذي أُسندت إليه مهمة محاربة الرسوب المدرسي في المناطق والضواحي الفقيرة؛ لذا قام بمضاعفة الإمكانيات المالية لصالح المؤسسات التربوية لاسيما المدارس الابتدائية بهدف تقديم الدعم للتلاميذ ومساعدتهم على النجاح وتفادي الفشل الدراسي. وفي سنة 1988، أطلق وزير التخطيط، ميشال روكار، مشروعًا لتعزيز التماسك بين الدولة والأقاليم، وكان هدفه إنشاء هياكل اقتصادية جديدة وتعزيز البنية التحتية للضواحي مع تمكين سكانها من الخروج من العزلة الاقتصادية وإيجاد فرص عمل جديدة(18).
أما في 1991، فقد قام الرئيس السابق، ميتران، بإقرار قانون جديد يرغم كل المدن التي يتعدى سكانها 20 ألف نسمة بتخصيص 20% من مشاريعها العقارية لبناء سكن اجتماعي مع فرض غرامات مالية على البلديات والمدن التي لا تحترم هذا القرار. لكن مع مرور الوقت، لوحظ أن العديد من البلديات، لاسيما الغنية تفضِّل دفع الغرامة المالية عوضًا عن تخصيص 20% من مشاريعها العقارية لبناء سكن اجتماعي(19).
وفي التسعينات، أطلق الرئيس جاك شيراك مخطط “مارشال” لإنقاذ الضواحي الفرنسية منتقدًا ما سماه الشرخ الاجتماعي، وقد أُسندت مهمة إعادة تأهيل أحياء الضواحي لرئيس الوزراء، آلان جوبيه، الذي أعلن عن أكثر من 60 إجراء تهدف إلى إنعاش الضواحي اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فيما تم إنشاء حوالي 30 “منطقة حرة” في فرنسا. وقد أعفىيت الشركات التي تستثمر في هذه المناطق الحرة من دفع الضرائب مقابل توظيف شبان الأحياء. وفي 1997، أسس وزير الداخلية، جان بيار شوفنمان، ما يسمى “الشرطة الجوارية” للتصدي للعنف الحضري(20).
وقد أطلق رئيس الحكومة الأسبق، ليونيل جوسبان، مشروع “التجديد الحضري والتضامني” في الضواحي الفرنسية بتكلفة قدرها حوالي 3 مليارات يورو. وفي 2001، كشف جوسبان عن مخطط ثان بقيمة 5.4 مليارات يورو. وكانت أهداف هذا المخطط الطموح تحسينَ ظروف العيش في أحياء الضواحي مع تنفيذ سياسة التجديد الحضري. فالدولة قامت بموجب هذا المخطط بهدم العديد من المباني القديمة وإصلاح الطرقات وربط الضواحي بالمدن الكبرى، كل هذا عبر تطوير وسائل النقل وتجديدها، بالإضافة إلى بناء مساحات خضراء (حدائق عامة) ومرافق صحية ورياضية. وفي العام 2005، صادق وزير المدينة، جان لوي بورلو، على قانون “التوجيه والبرمجة الخاص بالمدينة” والتجديد الحضري. هذا القانون ينص على هدم المباني القديمة وبناء سكن جديد فضلًا عن تقليص الفوارق الاجتماعية بين سكان الضواحي والذين يعيشون في المدن الكبرى(21).
كما أطلق الرئيس نيكولا ساركوزي، في العام 2008، برنامج “أمل الضواحي”، وقام بتعيين الناشطة فضيلة عمارة، وهي من أصول جزائرية، في منصب كاتبة دولة لسياسة المدينة. وهي المرة الأولى التي يتم فيها تعيين مسؤول حكومي رفيع المستوى من أصول أجنبية من أجل رسم سياسة جديدة للضواحي. وكان هدف مخطط “أمل الضواحي” تقليص نسبة البطالة في صفوف الشبان الذين لا تتعدى أعمارهم 26 عامًا. كما خصصت الحكومة آنذاك نحو مليار يورو من أجل تطوير قطاع النقل بالضواحي الفرنسية إضافة إلى توظيف أكثر من 4000 شرطي جديد في الأحياء الشعبية الحساسة بهدف تحسين العلاقات مع الشبان. لكن المخطط اصطدم في نهاية المطاف بتصريحات ساركوزي الصادمة والمثيرة للجدل(22).
وبدوره وضع الرئيس فرانسوا هولاند، في العام 2012، خطة لتأهيل أكثر من ألف حي شعبي في فرنسا، تضمنت حوالي 25 إجراء أبرزها توظيف شبان الضواحي من قبل شركات كبرى رغم عدم امتلاكهم شهادات تعليمية أو مؤهلات وظيفية. بالمقابل، منحت الدولة خمسة آلاف يورو للشركات والمصانع التي انخرطت في هذا المشروع عن كل شاب يتم توظيفه. كما تضمنت الخطة تعيين مدرسين إضافيين في المرحلة الابتدائية، وإمكانية إرسال الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم ثلاث سنوات إلى الحضانات.
وفي العام 2017، طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من وزير المدينة السابق، جان لوي بورلو، اقتراح مشروع لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضواحي الفرنسية. وقد اجتهد الأخير خلال عدة شهور لرسم خارطة جديدة للضواحي بقيمة 48 مليار يورو. وكان يُنظر إلى مشروع بورلو على أنه الأكثر تكاملًا؛ حيث أخذ بعين الاعتبار المشاكل الحقيقية التي يعاني منها سكان الضواحي والأحياء الشعبية. لكن أيامًا قليلة فقط قبل الإعلان عن مضمونه، قرر الرئيس ماكرون التخلي عن المشروع؛ ليواجه انتقادات لاذعة. وردَّ الرئيس ماكرون على منتقديه بالقول إن منذ توليه السلطة، صرفت الدولة الفرنسية أكثر من 20 مليار يورو(23).
مستقبل أزمة الضواحي
فيما تحاول فرنسا التصدي لأعنف احتجاجات ضد العنصرية شهدتها البلاد، نُقل عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سعيه لإيجاد حل نهائي لمسألة العنف وأزمة الضواحي وسط جدل في فرنسا حول مسألة معالجة أوضاع المهاجرين وأحيائهم، بين من يطالب بمزيد من التشدد الأمني وبين من يدعو إلى إيجاد حل للمشاكل من جذورها. هذا مع ملاحظة أن هذه التطورات جاءت بعد تعديل القانون الذي ينص على استخدام الأسلحة النارية في عام 2017، وبموجبه يمكن للضباط الآن إطلاق النار في مجموعة من الظروف الواسعة (وغالبًا ما تكون غامضة). وقد تم ربط هذا القانون بـ13 حالة وفاة بعد توقف حركة المرور في عام 2022 وحده(24).
عندما التقى ماكرون مع أكثر من 250 رئيس بلدية واجهوا أعمال عنف في البلدات والعقارات، سلطت نداءاتهم للمساعدة في إلقاء الضوء على الانقسامات السياسية العميقة؛ حيث قال عدد من رؤساء البلديات المنتمين لليمين: إن هناك حاجة إلى مزيد من “السلطة” والشرطة والحزم. وانضم البعض إلى ماكرون في دعواته للآباء للسيطرة بشكل أفضل على المراهقين. لكن تيارات اليسار قالت: إن هناك فشلًا في معالجة الفصل العنصري في المناطق الفقيرة؛ حيث بات هناك تمييز وعدم مساواة في التعليم وسياسة الإسكان، في مؤشر على انقسام كبير بالمجتمع الفرنسي.
وهناك مؤشر مفيد لمعرفة جانب من التدافع الذي تشهده الساحة السياسية والاجتماعية الفرنسية؛ حيث أطلق السياسي الفرنسي ذو الأصول المصرية، جون مسيحة، حملة على موقع “غوفاندم” الشهير، قائلًا: إنها تهدف إلى دعم عائلة شرطي نانتير، “فلوريان إم.”، مؤكدًا على أن الشرطي فلوريان قام بعمله ويدفع الآن ثمنًا باهظًا جرَّاء ذلك، فلابد -حسب جون مسيحة- من دعمه بشكل كبير ومن دعم تطبيق القانون. وقد حصدت هذه الحملة أكثر من مليون ونصف المليون يورو؛ حيث أسهم فيها أكثر من 34 ألف متبرع. من جهة أخرى، ولمساعدة والدة الفتى نائل، تم على موقع “ليتشني” الإعلان عن جمع التبرعات، وخلال الفترة الماضية لم يجمع أكثر من نصف مليون يورو، وقد شارك في الحملة ما يقرب من 5 آلاف شخص(25).
تبدو أزمة فرنسا نابعة من كون هذا البلد الأوروبي المتقدم يجمع بين أسوأ ما في اليمين واليسار، إضافة لعلمانية متطرفة، ودولة مركزية اعتادت على محو الفوارق بين المجتمعات بالقوة عبر تاريخها، إحدى الإشكاليات الكبيرة في الثقافة الفرنسية، أنها لا تعترف رسميًّا بوجود أقليات بدعوى أن ذلك يمثل نوعًا من التمييز لذا ستكون أزمة الضواحي حاضرة مع كل حقبة من الحقب(26).