عاهات الجسم السياسي العربي ومهمة الثورة الديمقراطية(بنسالم حميش)_2_
الأجوبة في خلاصات
في منحى إعادة ثقافة السلام وإشاعتها، العالمية، كما يلزم أن نفترض، هي أشبه ما تكون بكوكب فارغ أو إن شئنا بقانون ـ إطار قابل لأن يحيى وينتعش بالعطاءات الهوياتية المرتبطة أساسا بأخلاق الاستعراف والتشارك. وبالتالي فإن الثقافات لا يمكنها إقامة معنى لوجودها بالمحاكاة والتبعيات التخفيضية، بل بتكوين شخصيتها القوامية وتنمية سبل بلوغها الفعلي والمسؤول إلى العالمية، وإلا فإن الهوية المهيمنة ستكون هوية القوى المهيمنة، وسيُحكم على غالبية الساكنة الأرضية بإنشاء وجودها على الاستيراد المطرد والسعي إذن إلى انتحال ثقافة الآخرين بالإقتباسات والتقمصات. وحتى لو اعتبرنا هذا الصنف من الوجود محتملا، فإن سيرانه يبقى رهيناً بعلامات الاصطناع والكوميديا الحزينة، وممثلوه مكتفين بحياة النقب في صحون الغير، محرومين من أي نوابض محايثة وإلهامية.
خارج إواليات منطق التبعية أو التضاد، وبحثا عن استبداله بمنطق الفعل والإثبات، قد يكون من الأفيد والأحرى أن ندرج ضمن مهامنا المعرفية الحاضرة إقامة شروط مجيئنا المستحق إلى الحداثة، وذلك بدءا بالارتكاز إلى ركن ركين، وهو أن أي تحليل تاريخي أو “جينيالوجي” للحضارة الغربية يُظهر أن عناصر أساسية من مكوناتها وروافدها تعود إما إنتماءاً أو بالتبني إلى الحضارة العربية الوسيطية، بالأخص في حقل المحرك العقلاني الدافع لتطور الغرب وتفوقه. وليس التمجيد أو التباهي هو القصد من استحضار دور عرب العهود الوسطى الريادي في صناعة العلوم أو في نقل التراث اليوناني إلى أوربا ما قبل النهضة، بل القصد الأساسي من ذلك هو إفشال كل مشاعر الدونية والإحباط بإزاء الغرب، وأيضا كلِّ اعتصام أهوج بهوية مطلقة لا تاريخية، وهو إذن مناقضة كل هذا باستنتاجين قابلين للتمحيص العلمي، وهما:
ـ الحداثة كانت في أفق تطور العرب الممكن، غير أن هؤلاء ـ لأسباب تاريخية محددة تعود إلى انتكاسة انطلاقتهم وانحسار مؤسساتهم ـ ضيعوا فرص تقدمهم وأجهضوا شروط مناعتهم.
ـ الغرب بالتالي لم تصنع الحداثة صنعا ولم ينلها عن طريق وراثة خصوصية أو ما شابه، بل إنه فقط تمكن من كسب رهاناتها وربح السباق إليها.
إن السعي إلى تغليب هذا المنظور التاريخي الأقرب إلى الحقيقة والصواب لمن شأنه أن يجعلنا نعارض كل ميل إلى ممارسة التنميط “الماهوي” علينا، فيُظهرنا ككائنات دينية أو ميتافيزيقية لا تقبل التبدل والتحول، ولا تقدر على التكيف مع القطِيعات وجدليات التاريخ. كما أن بمقدور ذلك المنظور التاريخي أن يمنحنا الوعي والحذر اللازمين حيال أشكال الهيمنات الجديدة التي أخذت تتظاهر في مجالين فاعلين متكاملين، هما الثقافة والإعلام، اللذين تكشفهما اليوم – على سبيل المثال الدال – سياسة فرنسا الحازمة في نشر لغتها وثقافتها بأعتى وأنجع الزسائل السمعية-البصرية والاستقطابية، وذلك عبر مجموع مستعمراتها القديمة أساسا، وهي السياسة المعروفة بالفرنكوفونية؛ هذه السياسة التي تؤدي بلاد اللغة العربية ثمن صراعها ضذ الأنجلوفونية من أجل كسب مناطق الهيمنة وقنوات النفوذ والتأثير ذات الاتجاه الأحادي الجانب.
الحداثة إذن من جهة العلاقة بالذات تقوم في رد الاعتبار إلى هذه الأخيرة، من دون نرجسية طبعا ولكن بالتأكيد من دون الإنسحاق الذاتي بعمل الايحاء “المازوخي”. وعليه فالمجال المشروع الذي لا بد من ايجاده هو المجال الثقافي المتجانس الأبعاد، إنْ على صعيد اللغة القومية أو على صعيد الفكر والرؤى. وبدون هذا المجال، كما يعرف غيرنا جيدا، لا تقوم للذات الثقافية القائمة ولا تقدر على أطوار المنافسة والابتكار. ونحن بهذا المنظور إلى الحداثة إنما نمارس نوعا من التقليد الجميل: أن نحب لثقافتنا ـ لغةً وكيانا ـ ما يحبه الآخرون لثقافتهم، أي قوة الحضور والإشعاع.
تحديث علاقتنا بالسياسة
في حاضرنا ما زالت السياسة كممارسة ومفهوم مثقلة برواسب ماضينا الوسيط، المشكل من أعمال وتقاليد حكم الاستبداد الموفق حينا والبئيس أحيانا، والواقف، في كل حالات مشروعياته المنتزعة، على وظائِف المال والسيف أساسا وعلى وظيفة القلم كوظيفة لاحقة مساعدة. فهل لنا أن نتذكر اليوم صورة الخليفة أو السلطان من دون أن نراها محفوفة بصورتي النطع والجلاد! وهل لنا أن ندرك العقل السياسي العربي الوسيطي خارج منحولاته وتحكماته أو غير مقيد بثوابت عنفِه الرمزي منه والمادي! لكن هذا العقل وتلك الصورة، إن كان لا يشفع لمعقوليتهما إلا واقعهما، فإنهما، حاضرا، مدعوان إلى الامحاء وفقدان كل سبب للبقاء. وهذا ليس فحسب بفعل تأثيرات طبيعة العالم المعاصر التي تفرض أكثر فأكثر قيم الحرية والتعاقد الديمقراطي، وإنما أيضا لأن المجتمعات المدنية في بلادنا العربية ساعية إلى الاكتشاف حقوقها وممارستها ضد حكامها الذين يحولون السياسة إلى آلة للهلك والموت وقوة لقهر الحياة وتعتيم علائق الإنسان بطبيعته ومجتمعه.
إن القضاء على العاهات و”الحشرات القديمة” في الجسم السياسي العربي مهمة لا تقدر عليها إلا الثورة الديمقراطية، التي هي مطالبة الآن مع أجيال ما بعد الاستقلالات باستمداد مشروعيتها من الإدارة العامة وبتبني سلطة القانون الوضعي ومبدإ التناوب في الحكم، كذلك من احترام حقوق الإنسان بما لا يقبل التلكؤ والردة، وهذا كله فوق كل مشروعية تستند إلى ثنايا التاريخ أو حتى إلى مكاسب الكفاحات الوطنية ضد الاستعمار.
خاتمة عامة
إن تحقيق تلك النقلات الكبرى وسواها يفرض على فاعليها اليوم الأخذ بأسباب العقلنة والترشيد المستمدة من الذات التاريخية أولاً، ومن نظم الإنتاج والتسيير التي كان بمقدور هذه الذات أن تنالها بالسبق والاستحقاق لو لم تعقها عن ذلك عوامل انتكاس وتصدّع داخلية، إضافة إلى عوامل انطلاق التفوق الأوروبي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر. من حيث إن هذه النهضة الأوروبية استلهمت التراث اليوناني لصالحها وأن الرأسمالية، كما أظهر ماكس فيبر، مدينة في نشأتها وانتشارها إلى البروتستنتية بالشيء الكثير، وأيضا من حيث إن تطور الاقتصاد في بعض أقطار آسيا حاضرا تلقى زخمه المعنوي التحفيزي من الكونفوشية، حسبما بيّن ميكو موريشما، فإن من الجائز والممكن ـ كما يُستفاد إلى حد دال من تجارب أندونيسيا وماليزيا مثلا ـ أن يكون للإسلام الثقافي والقيمي ولفلسفته الاجتهادية العملية دور نوعي مخصوص في خلق شروط إحداث “المعجزة” الاقتصادية المرجوة والتقدم العلمي الفكري المنشود، وذلك كله في سياق وجوب كسب الرهان الحضاري والتنمية البشرية الكلية وبروز القطر ـ القدوة أو التجمع ـ المنارة.
وفي هذا السياق وحده كدينامية مبدعة وصيرورة تأثيلية كمّية وكيفية تتلاشى الصدوع والتوترات المعيقة وتتجاذب العقول والذهنيات إيجابيا نحو الأفيد والأجمل والأرقى، فترى الأصولي الحق قادرا على استيعاب الوعي التاريخي ومميزا بين الحي والميت في نصوص الأثر والقول التراثي؛ كما ترى الحداثي متخذا موقف النقد بإزاء كل تغريب إن كانت محصلته الاستلاب والولاء التبعي وفقدان الاعتبار الذاتي وطاقات المنافسة والمبادرة والخلق.
هوامش
(1)ـ كأمثلة على تلك الأغطية الذرائعية 1860: فرنسا تتدخل في لبنان بزعم حماية المارونيين ضد الدروز… 1881-1882: قنبلة الاسكندرية وسحق الثورة العرابية في التل الكبير، فاحتلال الانجليز لمصر في عهد الخديوي توفيق، وكل هذا بعد ما عرفه هذا القطر العربي من تغلغل أوروبي بدعوى مراقبة فرنسية-انجليزية للميزانية المصرية المنهكة بالقروض في عهد الخديوي إسماعيل… 1888: بداية التسرب الانجليزي إلى الحجاز بدعوى مساعدة القومية العربية بزعامة شرفاء مكة على مناهضة العثمانيين… 1912: فرض نظام الحماية الفرنسية على المغرب بحجة عجز هذا الأخير عن تسديد ديونه الخارجية، إلخ.
(2) ـ لورانس، أركان الحكمة السبعة، الترجمة الفرنسية، ط. بايو، باريس1982، ص 36.
(3) ـ أنظر نصوص لورانس الأساسية (بالفرنسية)، ترجمة إيتيانبل وياسو جوشير، ط. غاليمار 1965، ص 183.
(4) ـ أركان الحكمة السبعة، المرجع المذكور، ص 821، في الطبعة الانجليزية Penguin Books، لندن 1962، ص 684.
(5) ـ صامويل هنتنغتون، صدام الحضارات، الترجمة الفرنسية، ط. أوديل جاكوب، باريس، 1997، ص 97.
(6) ـ المرجع نفسه، ص 200.
(7) ـ المرجع نفسه، ص 216.
(8) ـ حول مفهوم الدولة المارقة، أنظر شومسكي في قانون الأقوى، ط. Serpent à plumes، باريس 2002؛ وكذلك كتاب وليام بلوم في ترجمته الفرنسية الدولة المارقةL’Etat voyou ، ط. سراس طارق، تونس-الدار البيضاء، 2002.
(9) ـ لعل الجدير بالإشارة أن دار غاليمار رفضت نشر كتاب هنتنغتون المذكورـ أنظر نقدنا له مفصلا ولمؤلف فوكوياما في كتابنا، نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، 2004
(10) ـ صدام الحضارات، ص 334.
(11) ـ مقالة برنار لويس منشورة في مجلة Atlantic Monthly، عدد 266، شتنبر 1990، أي بعد صدور كتاب همنتنغتون المذكور بخمس سنوات ونيف. وعنوانها الأصلي الكامل هو:
The roots of muslim rage : Why so many muslims deepley resent the West and why their bitterness will not be easly mollified وترجمته: “جذور السعر الإسلامي: لماذا كثير من المسلمين يكنون كراهية عميقة للغرب، ولماذا لا يمكن بيسر خفض مرارتهم المتعاظمة”. أنظر أيضا مقالاته المترجمة إلى الفرنسية في كتاب بعنوان Le retour de l’Islam (ويقصد islamisme)، غاليمار ـ فوليو، باريس 1985.
(12) ـ إ. سعيد، Culture and imperialism، نيويورك، 1994، ص 205.