ذات خائرة.. وخصم فتي(خالد العسري)
“وبمجرد ما استقر الأمر لعبد الحفيظ [السلطان] بأن يسير في النهج الذي تعمل له السلفية في ذلك الوقت، فقد تصدى بنفسه لمقاومة الطرق والزوايا” الزعيم علال الفاسي رحمه الله*
لقد غدت الزوايا تعيش على تراث أشياخها المربين المؤسسين، مما أدخلها “مرحلة التبرك” التي يغيب فيها الشيخ المربي الحي، وتعوض صحبته الفعلية بصحبة الأموات، ويمكن اعتبار ذلك العنوان الأبرز لأزمتها الذاتية العميقة، وهي مرحلة فيها “تتعرض الطريقة إلى مظاهر من التبدع تزداد حدة كلما طال الأمد بينها وبين الأستاذ المربي، لأنه وحده القادر على تقويم سلوك المريدين، ورعاية نهج السلف فيهم، فما أن يأخذ المريدون في التهاون في الوفاء بشروط التبرك المذكورة حتى تتطرق البدع إلى الطريقة … فتتحول عن أهدافها التربوية والتثقيفية، وينتابها ما ينتاب المؤسسات غير الدينية، فيغلب عند أصحابها طلب الدنيا على طلب الآخرة، وقصد الرئاسة على الخلق على إخلاص العبادة للحق”[1].
لقد كان لسداسية: غياب الشيخ المربي الحي، وتحول المشيخة في الطرق والزوايا إلى نمط وراثي، وغرق بعضها في بدع تقشعر منها القلوب والأبدان، وتواطؤ أخرى مع الاستعمار، وتصيير أخرى ألعوبة في يد السلطة، وعدم قدرة الزاوية على تجديد بنيتها التنظيمية لتتواءم مع متطلبات المرحلة الجديدة، كان لكل ذلك أكبر الأثر في هزيمتها الذاتية؛ بالإضافة إلى هزيمتها الموضوعية أمام خصمها التاريخي: السلفية.
حاربت السلفية الوهابية الطرق والزوايا وكل ما يمت إلى التصوف بصلة حربا لا هوادة فيها، وجعل الوهابيون مدار دعوتهم على مفهوم التوحيد الذي صاغوه في قوالب معينة، فكفروا كل من خالفهم فيه، وعدوا الصوفية من أوائل المبتدعين في الدين، الضالين الضلال الكبير، لذلك منعوا مواسمهم، وهدموا أضرحتهم وزواياهم، وبثوا دعايتهم في العالم الإسلامي عبر كل وسيلة تخبر عن غيهم وبعدهم عن صفاء الدين الإسلامي. لقد جعلت السلفية الوهابية من حربها على التصوف حربا عقدية لا مكان للتوافق فيها على حلول وسطى.
أما السلفية الإصلاحية فقد تأثرت بتوجهين حاولت دمجهما مع بعضهما البعض ليشكلا نسقها الفكري المستقل: تأثرت بالسلفية الوهابية في الدعوة إلى صفاء العقيدة، كما تبنت من منظومة الحضارة الغربية اعتماد العقلانية بوابة لتفسير آي الكتاب وحديث خير الأنام r، فرأى روادها وأعلامها أمثال جمال الدين الأفغاني، والشيخ رشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد بن العربي العلوي، وأبو شعيب الدكالي في الطرق الصوفية الطامة الكبرى على حاضر العالم الإسلامي ومستقبله.
كانت حرب السلفية الإصلاحية الوطنية ضد الزوايا حربا سياسية في المقام الأول، استعملت فيها أسلحة التبديع والتخوين والتشهير من أجل القضاء على زوايا مازال لديها رصيدها الشعبي، وقدرتها على توجيه الرأي العام. لذلك كانت كل الجهود تبذل من أجل انتزاع إمامة الناس من يد رجال الزوايا ليكون الزمام بيد القادة الجدد من السلفية الإصلاحية، فكان السلاح المزدوج لذلك هو تبيان بدعية الطرق، وتبعيتها للاستعمار.
يخبرنا أحد أئمة السلفية الوطنية عن تلك الاستراتيجية، فيقول: “ألف عديد من أصدقائنا مؤلفات في شرح بدعية الأساليب الطرقية المتبعة عندنا، ولكن القسط الأكبر من هذه الدعاية كان يتوجه لفضح الخيانات التي يقوم بها الطرقيون في المغرب”[2].
إن مصطلح الدعاية يحيل إلى الحقل الدلالي السياسي أكثر منه إلى الحقل العقدي، وقد كان هَمُّ السلفية الإصلاحية أن تهزم الزوايا باعتبارها خصما سياسيا أكثر منها عدوا عقديا، لذلك كانت الأولوية عندها أن يفقد الناس ثقتهم بالزوايا، ويتخلوا عنها لصالح تنظيمات السلفية الإصلاحية الجديدة، وأيما نجاح للدعاية كان معناه أن السلفية “سجلت انتصارها الإجمالي بانتصار سمعة دعاتها وسقوط خصومها، وأصبح الميدان واسعا للذين يريدون العمل في سبيل توسيع الجهد السلفي مقرونا بما يتطلبه العصر من حركة سياسية واجتماعية كبرى”[3].
ما يتطلبه العصر من حركة سياسية واجتماعية كبرى كان يعني بناء الدولة والمجتمع وفق نسق تنظيمي جديد يقطع مع مرحلة ما قبل الاستعمار، ويستفيد من البنيات الإدارية المستحدثة، وهو نسق كان يلقى معارضة شديدة من قبل الزوايا التي ألفت البنية التقليدية، فارتبط في وعيها أن استمرار تلك البنية شرط في استمراريتها.
لقد رأت السلفية الإصلاحية أن “الأمة قامت في الماضي على جهاز اجتماعي قوامه القبيلة؛ والمرابطية؛ والمنظمات الاحترافية. إن هذا الجهاز أصبح عديم الجدوى في العصر الحديث بسبب ما أدت إليه القبيلة من تفريق الأمة، وما وطدت له المرابطية من خرافة واستسلام، وبسبب الانحلال الذي أصاب الحرف المهنية التي لم تعد قادرة على أن تماشي حاجة المجتمع الاقتصادي الجديد. ففكرنا في ضرورة إحلال المسجد محل الرباط كما هو الأصل الأصيل في الإسلام، والوطن محل القبيلة، والنقابة محل المنظمة المهنية”[4]، لقد كان الصراع بين السلفية الإصلاحية والزوايا بين بنيات مجتمعية حديثة وبنيات تقليدية منحت فيها القداسة للأشكال أكثر منه إلى المضامين.
تغيرت ذهنيات المجتمع العربي والإسلامي وعقلياته وأصبحت بنياته تتشكل تدريجيا على النمط الغربي، فأصبحت الأحزاب والنقابات والجمعيات… هي الهياكل التنظيمية الجديدة التي تمثل القوى السياسية والمهنية والمدنية، وأخذت البنى التقليدية تتوارى عن الواجهة لتصبح تراثا يتحدث عن ماض يستحيل العودة إليه، وغدت الزوايا إما فلكلورا شعبيا، أو تجمعات موسمية، أو حلقات ذكر صادقة شعارها الجامع: “ترك ما لا يعنينا”، أو البينونة الكبرى بين الزوايا الصوفية والشؤون السياسية.
أصيبت زوايا بالكساح نكالا بما كسبت أيديها من إبدال البدع بالسنة، وظهر عليها خصومها في الساحة بعد أن جعلوا تجديد الدين وتطهيره من الأدخنة أولى أولوياتهم، وعاد التصوف ليركن إلى فقه القعود والحديث عن مفردات الخلاص الفردي بمعزل عن مفاهيم كبرى أصبحت تشغل الأمة مثل: المقاومة، والدستور، والحرية، والمواطنة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والوطنية، والقومية… وعاش رجال من الزوايا أزمة عميقة وهم يتحركون داخل منظومة مغلقة تتحدث عن أحوال النفس وتعزلها عن كل المؤثرات التي تحيط بها، لذلك كان اكتشافهم لعمل السلفية الإصلاحية العلمي والسياسي اكتشافا لقارة جديدة لم يَخبُروه في زواياهم، فكان فرحهم بالاكتشاف الجديد لا يعادله إلا الأسى الذي حصَّلوه بعد طول تجربة ميدانية راقبوا خلالها تحول الحركات الإصلاحية من الانتصار لتجديد الدين إلى التخلي عن الدين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* علال الفاسي: الحركة السلفية في المغرب. دراسة نشرت سنة 1956، وأعيد نشرها في المجلة المغربية الفصلية “المناهل” الصادرة عن وزارة الثقافة المغربية. ع 80ـ81/ فبراير 2007. ص: 406
[1] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل. ص:106
[2] علال الفاسي: الحركة السلفية في المغرب. ص: 409
[3] المرجع نفسه. ص: 408
[4] المرجع نفسه. ص: 415 ـ 416