صورة الإسلام في المنظور الفلسفي التفكيكي(التيجاني بوالعوالي)_2_
التفكيكيَّة وطابعها التعدُّدي:
رغم أنَّ دريدا يربطه أكثر من سبب أو خيط بالإسلام، إلا أنَّه لم يكتب أو يقل إلا الشيء القليل عنه! في العالم الإسلامي ولد وترعرع في زمن عويص بلغ فيه الصراع بين الإسلام وأوروبا الإمبرياليَّة أوجه، وقد ظلَّ إلى آخر لحظات حياته يقرُّ بأصله الجزائري، ثم إنَّه لا يمكن تناول الفلسفة الغربيَّة دون التوقف عند جهود وإسهامات الفلاسفة المسلمين، لا سيَّما في الأندلس التي أُجليَ منها أجداده الأوَّلون؛ في الأندلس التي مثلت نموذجاً استثنائياً في تاريخ تلك المنطقة لتعايش العقائد والثقافات والفلسفات، ما هيَّأ المناخ المناسب لازدهار العلوم والمعرفة والفن والفلسفة. ويُجمع الباحثون على أنَّ الفلسفة اليهوديَّة لم تشهد صعودها الذهبي إلا في تلك المرحلة من تاريخ الإسلام في الأندلس، حيث ظهر العديد من الأسماء الوازنة، كموسى بن ميمون، ويستاك بن يهودا، ويودا حليفي، وغيرهم. يقول دريدا في هذا الصدد: “إنَّ عائلتي التي عاشت في الجزائر قبل المرحلة الاستعماريَّة جاءت على الأرجح من تلك البلاد، إذن من إسبانيا، حيث تداخل الفكر اليوناني بالعربي باليهودي”.[8]
ومع هذا كله، فإنَّ دريدا لم يهتم بشكل حقيقي بالإسلام، ويبرّر ذلك بكونه يفتقر إلى المعرفة الحقيقيَّة بالإسلام، وأنَّ تخصُّصه مختلف تماماً، وهذا لا يؤهله لأن يتحدث عن الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، غير أنَّ وجهة نظره حول الثقافات غير الغربيَّة تتماشى وفلسفة التعدديَّة التي تمنح متسعاً لكلّ الأديان والفلسفات والثقافات والتقاليد دون تمييز أو إقصاء. ويستعمل بدل مصطلح التعدُّديَّة مصطلح الكونيَّة Universalism مقابل الكوسموبوليتيَّة Kosmopolitism التي ترتبط بالدولة القوميَّة والإقليميَّة، في حين أنَّ الكونيَّة (الديمقراطيَّة العالميَّة) تتجاوز المواطنة الضيقة والدولة القوميَّة. يقول حول ذلك:
“إذا كان لا بُدَّ من قيام حوار بين ما نسميه الغرب والشرق، بين مختلف الأجواء الثقافيَّة والدينيَّة في عالمنا، إذا كان مثل هذا التبادل الفكري لا التسلطي ممكناً دون العودة إلى العنف، إذن يجب أن يتمَّ ذلك وفق منظور الديمقراطيَّة المستقبليَّة التي لا ترتبط بالدولة القوميَّة أو المواطنة الضيقة أو الإقليميَّة. فذلك إذن هو شرط حريَّة التعبير والتبادل الحر لما نسمّيه الآن حواراً”.[9]
من هذا المنطلق، يميز دريدا بين الديمقراطيَّة المعتادة، التي يسعى فيها كلُّ طرف إلى الفوز بعدد أكثر من الأصوات على أساس المنافسة والنديَّة، وبين الديمقراطيَّة المستقبليَّة التي هي عبارة عن وعد، ولا توجد الآن في أيّ مكان من العالم ديمقراطيَّة تتطابق ومفهوم هذه الديمقراطيَّة. [10]ولعل هذه الديمقراطيَّة بمثابة مطلب مثالي وحلم كبير، لا يمكن تحقيقها على أرض واقع يتَّسم بالصراع والإقصاء والتنابذ، ودريدا يدرك بعمق أنَّ الظروف الراهنة لا تسمح بإرساء ذلك النظام الديمقراطي، الذي لا يصلح إلا لمستقبل قد يأتي وقد لا يأتي! غير أنَّه يمكننا بفضل قيم الحوار والاحترام والاعتراف بالآخر أن نمضي على السكَّة المؤدية إلى هذه الديمقراطيَّة المنشودة، “التي تسمو على السيادة القوميَّة أو الإقليميَّة، وتوظّف كلَّ التقنيات الجديدة لتحطيم الحدود الترابيَّة، وتطرح منظوراً لقانون عالمي جديد”.[11]
وهذا إن دلَّ على شيء، فإنَّه يدلُّ على أنَّ فلسفة دريدا حول العلاقات الإنسانيَّة منشغلة أيَّما انشغال بالمستقبل؛ ليس مستقبل الامتدادات والمسارات الفيزيقيَّة، وإنَّما مستقبل الأفكار والمفاهيم، لأنَّه دون بناء فكر عقلاني واضح سوف نظلُّ نعيش في نوع من الارتباك والقلق، لا سيَّما أنَّ المهمّة الجوهريَّة لفلسفته التفكيكيَّة هي إعادة تشكيل الأنا أو الذات واللغة ثمَّ المجتمع.
الإسلام ونظريَّة التفكيك:
يعتقد دريدا أنَّ العلمانيَّة تشكّل الإطار العام التنظيمي للمجتمع، وأنَّ مختلف الممارسات والسلوكات والمعايير ينبغي أن تخضع لمقاييس العلمانيَّة وقوانينها، وهذا يتطابق مع ما يطلق عليه الديمقراطيَّة المستقبليَّة، التي تقترح علمانيَّة تحرّر ما هو سياسي من أيّ تواطؤ مع الثيوقراطي واللاهوتي، وفي الوقت نفسه وبطريقة متسقة ومتماسكة تماماً تضمن الدولة طبعاً حريَّة الدين والتديُّن. [12]
وهذا يعني أنَّه لا يمكن فهم مقاربة دريدا للإسلام وغيره من الأديان في انفصال عن رؤيته الشموليَّة حول السياسة والديمقراطيَّة والعلمانيَّة، فهو يميز بين الدين والإيمان، فالأديان معروفة؛ إذ منها ما هو توحيدي وما هو وضعي، غير أنَّ الإيمان يحمل أيضاً معنى الثقة، فالإنسان لا يستطيع أن يتوجَّه إلى الآخر دون أن يطلب منه أن يصدقه (يؤمن به) أو يثق فيه، [13] ومسار الثقة أو الإيمان هذا لا يقتصر على ما هو شخصي أو ديني، وإنَّما يعتري شتى علاقاتنا الاجتماعيَّة والسياسيَّة. يقول موضحاً ذلك:
“هذا يعني إذن أنَّه عندما يتحدَّث معنا شخص ما، يطلب منا أن نصدقه (نؤمن به). وعلى هذا يتأسس الإيمان سواء تبادلنا للكلمات أو الائتمان المالي والائتمان الاجتماعي، فضلاً عن جميع أشكال الاعتماد أو الشرعيَّة الاجتماعيَّة. إنَّ هذا الإيمان (حرفياً: الثقة) يعتبر شرطاً لتحقيق الرابطة الاجتماعيَّة في حدّ ذاتها، وفي غياب الإيمان أو الثقة لا يمكن وجود رابطة اجتماعيَّة. حسناً، أعتقد أنَّه يمكن للمرء جعل علمانيَّة السياسي متطرفة، بينما هو يتمسَّك في الوقت نفسه بضرورة الإيمان بمعناه العام كما سبق وأن عرَّفته. وعلى أساس هذا الإيمان الكوني، هذا الإيمان المشترك، هذا الإيمان الذي بدونه لا وجود لرابطة اجتماعيَّة، يمكن أو يجب على المرء على هذا النحو أن ينتسب إلى هذا الدين أو ذلك أو يحترمهما. وأنا مقتنع بأنَّ المؤمنين الحقيقيين الذين هم يهود أو مسيحيون أو مسلمون، هم الذين يعيشون حقاً تلك الحياة الدينيَّة الإيمانيَّة وليس هدفهم التبشير بعقيدتهم، وهم مستعدون دوماً لفهم دين الآخرين والوصول إلى معرفة ذلك الإيمان، الذي قُمت بتوضيح بُعده العالمي”.[14]
يبدو من خلال هذا أنَّ دريدا يسعى باستمرار إلى بلورة مفاهيم جديدة من منظوره التفكيكي، إذ يحطم التصورات السائدة، ليس قصد إلغائها نهائياً، ولكن قصد نفخ دلالات جديدة فيها أكثر ملاءمة وتكيُّفاً. وهذا ما يسري على مقاربته لثنائيَّة الشرق والغرب، عندما يفترض أنَّ هذين المفهومين ليسا متضادَّين، كما هو متداول لدى أغلب الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، “وأودُّ أيضاً ألَّا أضع الشرق والغرب على طرفي نقيض”.[15]
وهكذا يقوّض ثنائية “الشرق والغرب” التي اعتدنا فهمها على أنَّها متعارضة، ويحلُّ محلها ثنائيَّة جديدة منسجمة، يظهر فيها الشرق والغرب متَّحدين، أو بالأحرى يخصّب بعضهما بعضاً بشكل متبادل. وهذا ما يذكّرنا في الحقيقة بالشاعر الألماني الكبير يوهان فولفجانج فون جوته، الذي احتفى في أشعاره أيَّما احتفاء بالشرق والإسلام، ودعا إلى وحدة الشرق والغرب كما يوحي عنوان ديوانه الشعري، في زمن كانت فيه أوروبا المسيحيَّة ترى في الإسلام عملاً شيطانيَّاً وهرطقة مسيحيَّة، يقول في ديوانه الغربي الشرقي: “لله المشرق، / ولله المغرب، / والشمال والجنوب/ يستظلان بالسلام بين يديه”.[16] ولا يكتفي بهذا، بل يحفز الذات على أن تهاجر إلى الشرق، حيث الأمان النفسي والصفاء الروحي والنبع النبوي؛ “الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر/ والعروش تؤول، والممالك تتزعزع وتضطرب/ فلتهاجر إذاً إلى الشرق في طهره وصفائه/كي تستروح جوَّ الهداة والمرسلين!”[17]
وفضلاً عن ذلك، فإنَّ دريدا يمارس أيضاً هذه العمليَّة التفكيكيَّة على ثنائيَّة الإسلام والغرب، حينما يصرّح بأنَّ ثمَّة ضرورة لتطبيق تفكيك أو صياغة لصورة أوروبا عن الإسلام، وأنَّ هناك ما يدعو إلى وضع التباين التقليدي المقبول بين ما هو إغريقي ويهودي وعربي موضع الشك. [18]ولا يقف دريدا عند هذا الحد، بل يعتبر بيقين تام أنَّ الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة هي ثقافة غربيَّة أيضاً، إذ هناك العديد من الإسلام(ات)، كما أنَّ هناك العديد من الغروب (جمع غرب). [19]ولعلَّ كثيرين سوف يعتبرون هذه الرؤية شاذة وغامضة، غير أنَّها مقبولة إلى حد ما في إطار الفكر التعدُّدي المعاصر، حيث يرى البعض أنَّ الإسلام صار اليوم يشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الغربي الراهن، ويدافع البعض الآخر عن أطروحة الإسلام الأوروبي أو الغربي.