تقديم ترجمة كتاب: هشاشة الخيرية(إدريس مقبول)
يُعد الإقدام على ترجمة كتاب “هشاشة الخيرية” مغامرةً كبيرة بلا شك، لكنها في ذات الوقت مغامرة محسوبة حين يكون المترجم مُحترفا في الموضوع بما تعنيه الحِرَفِيَّة من استغراق في القراءة والدرس والتدريس، فضلا عن خبرة لغوية عالية منفتحة على أكثر من لسان، يحاضر بها المُترجم بطلاقة؛ عربي وفرنسي وإنجليزي وألماني.
لقد أحسن الأستاذ عز العرب لحكيم بناني بمبادرته لترجمة هذا النص الذي بدأت صاحبته في تأليفه منذ زمن بعيد، أي حوالي 1971م ، فأحسن بذلك من جهة في الاختيار لموضوع يعود للحفر في مسائل الفلسفة الأخلاقية وفلسفة المشاعر وإحراجاتهما، واختيارُ الرجلِ قطعةٌ من عقله كما يقال، وأحسنَ من جهة ثانية باستضافة هذا النص في بيتِ اللغة العربية واستضافة هذا العنوان إلى المكتبة العربية، فالترجمة كما يقول بول ريكور هي حُسن ضيافة لغويةHospitalité langagière .
هذه الترجمة جاءت من مُشتغل بالفلسفة لعقود طويلة، شغوف بالحِكمة صاحب إحساس مرهف باللغة، كان وَلَعُهُ الأول بفلسفة اللغة وبالضبط من خلال المدرسة النمساوية، وهذه مزية فنية فتحت له آفاقا فلسفية واعدة، ذلك أن كل علم من العلوم وكل فن من الفنون له تشعباته ومسالكه ومصطلحاته، فلا يعرف مدلولاتها إلا من كان مُختصا بذلك العلم أو ذلك الفن مُتابِعا لمستجداته. وقد نجح مترجم الكتاب الأستاذ عز العرب لحكيم بناني، الذي استغرقته الفلسفة بإشكالاتها تدريسا وبحثا لسنوات طويلة، في انتقاء العبارة العربية السلسة والأسلوب الجذاب الذي يشد انتباه القارئ، ولعل مرجع ذلك إلى اهتمامه بكثير من تفاصيل ودقائق التعبير العربي وسعيه للبحث عن المعنى في كافة اللغات التي يتقنها، متحررا من مناطق العزلة والعزل التي يضعنا فيها التراث والتاريخ معا.
من حسنات هذه الترجمة الحضارية أن الأستاذ عز العرب لحكيم بناني قَدَّم لترجمته بدراسة وافية قَرَّب فيها الكتاب ومباحثه وإشكالياته، وهذه وحدها تُغَذِّي فينا شهية الإقبال على فصوله مع سعادتنا “الطفولية” بالتمهيد للترجمة التي قلَّصت ببراعة المُترجِم المتفلسف بين النص في لغته الأصلية(الإنجليزية) ولغته العربية التي اتَّشح بها وظهر من خلالها ظهورا جديدا في سياق ثقافي مختلف، ولادة جديدة عبر الترجمة والتأويل كما يقول والتر بنيامين.
في المقدمة يُحدثنا المترجم عن منهجيته في ترجمة المفاهيم الفلسفية وعن اختياراته التي يبدو أنها لم تكن عملا اعتباطيا ولا هَيِّنا، وبخاصة حين يتعلق الأمر بمصطلحات ومفاهيم يونانية مرت إلى لغات حديثة ومنها إلى العربية في حوارية مُعقدة، وقد حافظت على شكلها في لغتها الأم، وهو ما عبَّر عنه الأستاذ عز العرب بمقتضيات الحوار الثقافي بين الكونية اللغوية والخصوصية الثقافية التي قد تَحْمِلُ على ترجمة المصطلحات إلى العربية أو على ترجمتها في الحدود التي تحترم الخصوصية الثقافية اليونانية..مع إقراره بصعوبة ترجمة النصوص الشعرية.
“هشاشة الخيرية” للفيلسوفة الأمريكية مارتا كرافن نوسبوم كتابٌ شَغَل نقاد الأدب قبل الفلاسفة ومؤرخي الأفكار، ذلك أن الأدب الذي حازت فيه الكاتبة على دكتوراه إلى جانب دكتوراه ثانية في الفلسفة هو اليوم أحد مشاتل الحياة الفلسفية، فالفلسفة حيةٌ في الرواية والشعر والمسرح والنقد واللغة، وتكاد تكون مُحَنَّطة ومدرسيّة في مختبرات وأقسام الفلسفة..وفي كل ما كتَبته نوسبوم تجدها ترجع إلى الأدب والتراجيديا لاستيحاء أفكارها ونماذجها التحليلية..وقد سمح لها انشغالها بالأدب وبموضوعاته فلسفيا بأن تُتَوَّج فيلسوفةَ العواطف انطلاقا من إعلائها من شأن ذكاء المشاعر، وإعادة الاعتبار لمشاعر الحزن والرحمة والمحبة والشفقة والخوف، وستهتم أيضا في كتابِ “الاختباء من الإنسانية” بشكل خاص بالاشمئزاز والخزي.. جَرَّها اهتمامها المتزايد بالأدب إلى دراسات وبحوث عن العلاقة بين الأنماط الأدبية والفلسفية للتفكير الأخلاقي، والعلاقة بين العواطف من جهة والمعرفة الأخلاقية، ووظيفة العواطف في الحياة الأخلاقية، والبحث أيضا عن المحتوى المعرفي للعواطف.
كتاب (هشاشة الخيرية) هو كتاب تلاحق فيه نوسبوم بـ”انتقائية” لا تنكرها صورا متعددة لإحراجات وجودنا المعاصر من خلال العودة لنصوص أدبية وفلسفية، العودة لهواجس الكينونة الفردية والجماعية، في ميادين المعرفة والتربية، كأقليات ثقافية وطائفية وعنصرية أمام ضغوطات الكثرة والتاريخ والموروث والمعتقدات والقوانين التي نصنعها أحيانا برعايتنا لنزيد من معدلات هشاشتنا ونُوَسِّعها..إنها الهشاشة التي تدفع فكرنا وحركتنا في اتجاه البحث المضني عن الصخرة الواقفة الصلبة في بحر الحياة والتي بإمكانها أن تمنحنا وحدها الثبات والاستقرار.
لعل أهمية الكتاب لا تكمن في إجاباته ولا في اختيارات نوسباوم نفسها وتحيزاتها التي يمكن لنا كقراء أن تكون لنا تحفظات ثقافية وأخلاقية عليها، على سبيل المثال ما تعلق منها بتحليلات متعددة منها تحليلاتها لقصة ألسيبياد، بل تكمن أهميتها في مهارتها الجدلية، واتساع أفقها في عرض دلائل الإحراجات الأخلاقية والطوارئ التي تملأ طريق جزء كبير من البشر في العيش، في كل صور الهشاشة تدفعنا الكاتبة إلى مراجعة شاملة لطرقنا المعتادة في التفكير وفي الاجتماع والفن والسياسة والأخلاق والتقنية والتربية وفي الحياة الخيِّرة، لأننا لسنا دائما في حالة “راحة” خارج “الضغوطات” لاختيار ما هو “جيد”، فقد تقوم ظروف وإكراهات، وهي موجودة باستمرار، تدفع لاختيارات خاطئة، أو لترجيح أهون الخطأين أو انتهاك أحد المبادئ حين تتعارض الواجبات وتخلق حالة من عدم التماسك… قد يكون “عدم التماسك” بين الحرية والضرورة توصيفا مناسبا للطريقة التي تَحُد بها الظروف إمكاناتنا في الاختيار.
تَرجِع نوسباوم لتفتشَ بِحُكم مرجعيتها الكلاسيكية الأدبية والنقدية في التراث الفلسفي والأسطوري اليوناني عن حلول للمشاكل الإنسانية ولتناقضات الإنسان وحيرته بين حوافزه الفلسفية والشهوانية، هو رجوع لا يخلو من استعارة “الصيدلية” التي اختارها ديريدا حين تكلم عن “صيدلية أفلاطون”. ترجع نوسباوم في إطار ما يُسمى “صراع القيم” لمساءلة ثنائية “الأخلاقي” و”غير الأخلاقي” وثنائية “الوجيه” وغير الوجيه” و”العقلاني” و”غير العقلاني”، تبحث عن صور تقتطعها من قصص عن صناعات كثيرة ، نعيش بها، ونعيش في رحاها، صناعات تروج في كافة الطبقات والمجتمعات وبين كافة الأجناس؛ صناعة الأتباع وصناعة الخوف وصناعة الغيرة وصناعة العداء والكراهية وصناعة “التصنع” وصناعة الألم وصناعات أخرى تُفاقم من هشاشة كائن يقع بين الحيوان والآلهة.. كائن قد لا يعي جيدا معنى مشاعر الآخرين المُحبَطة إلا بعد أن يشعر هو نفسه بالإحباط.. كائن لا يعلم ما معنى أن يحترم آلامَ شخص آخر إلا بعدما صرخ هو نفسه من الألم. كائن يقع في حب المظاهر وفي حب العري وفي حب الذات وفي حب العابر وفي حب السيطرة فيفقد بذلك تحكمه التدريجي في ذاته وتزداد هشاشته.
من التقاليد الجميلة التي يطالعها قارئ الكتاب هو ما حرصت عليه مارتا نوسباوم في نهاية كل فصل من الفصول التي بلغت ثلاثة عشر فصلا أن تختمه برسالة شكر لكل من ساهم في قراءة ومناقشة وتصحيح ونقد الفصل من زملائها ومن القراء ومن الباحثين، وهو تقليد على ما فيه من اعتراف بأهمية الآخر في بناء أفكارنا وكلماتنا والرقي بها نحو الكمال، يترجم حاجتنا إلى سُمو الأخلاق قبل لطائف العلم والحكمة كما يُقال.
هذه الترجمة عمل استثنائي ومُرَكَّب قام عليها مترجم ومُخلص للفلسفة بكل المقاييس، عمل استثنائي لما بُذل فيها من جُهد شكلا ومضمونا، ولعلها تكون في غاية الغايات، وليس للترجمة حدود ولا تخوم ولا غايات نهائية، لو وَجدت في طبعتها القادمة من يَسهر على تكشيف مصطلحاتها ومفاهيمها الفلسفية وفهرسة أعلامها لتفتح بابا أوسع للإقبال على هذا العمل المميَّز.