بين إرث التاريخ ونقيضه(خالد العسري)
“التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء” الإمام القرطبي*
يجد المؤمن الباحث عن مقامات القرب من العلي القدير الظلال وارفة إن وجد مصحوبا يغذيه مما أعطاه الله، يسعد وسقف الصحبة يحضنه، وفضاء المحبة مع باقي المريدين يمده بأسباب الاستمرار، ويكلأ الله برعايته من شاء فيذيقهم الأنوار، ويرفع عنهم الحجب والأستار، فيجدون السلوة والأنس في خلوتهم وعزلتهم.
ما زال هذا الاختيار رواده كثر، لكن نورانيته إن وجدت لا ينبغي أن تعمي على المؤمن أنه اختيار يقف دون كمال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع الهمين في قَرَنٍ واحد: هم السلوك إلى الله عز وجل؛ وهم إحياء الأمة: أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وصبرا على الابتلاء، وبناء لدولة تقيم دين الله، وتنشر ألويته في الآفاق. فما ينبغي أن يقف طموح المتخذين محمدا صلى الله عليه وسلم أسوة دون سنته، لذلك كان مبتدأ الحركة الإسلامية مزدوجا: تربية أبنائها على شعب الإيمان، ومجاهدة الواقع بكل ممكن انتصارا لتكون كلمة الله هي العليا.
تعلو كلمة الله في واقع الناس إن خنس الاستبداد عن قلاعه، بل ما عاد الاستبداد يتترس من وراء قلاع أو جُدُرٍ وقد سطا على التاريخ مبكرا، فجعل الدين طحنا، وجعل الأمة نخالته. نقض حكمُ الاستبداد عُرى الإسلام على مر تاريخ المسلمين حتى لحق النقض الصلاة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري كم تبلغ اليوم نسبة الذين ما عادوا يقيمون الصلاة في ديار المسلمين؛ وهي الركن الركين من الدين! فمن تهمم بمصيره، أو ظن أن الإنقاذ يحصل بدعوة هذا وذاك، وترك الاستبداد يرسِّم “دين الانقياد” بلسان ابن خلدون على الأمة بإعلامه وتعليمه وقانونه وقضائه وإدارته وحكومته فإنما يسهم في جعل الاستبداد خيارا سرمديا على أجيال المسلمين، ومن تهمم بمصير الأمة ونسي مصيره يوم العرض على الله عز وجل فما يعد نفسه إلا غرورا.
تجعل تنظيمات إسلامية اليوم همها إخراج العامة من الفساد بالتربية، وإخراج الحكم من الاستبداد بالممانعة، فلا يتحصل لها هذا وذاك إلا أن يجتمع في قيادتها شرطا علو التربية والكفاية السياسية.
من أهم شعارات الحركة الإسلامية اليوم هو استبدال الشورى باستبداد الحكام، فلا جرم أن تكون أولى الأسئلة التي تواجِه بها السلطات السياسية حول مدى تمثلها للقيم الشورية مساءلة بها هي أيضا، إذ لا يجوز أن تحُِلَّ لنفسها ما تحرمه على غيرها. وهو الأمر الذي ما زالت الحركة الإسلامية تقف دون التفصيل فيه من بابين:
_ باب تصورها للفقه الشوري التفصيلي المبتغى تنزيله على مؤسسات الدولة الإسلامية وإداراتها.
_وباب تنزيلها للفقه الشوري في تدبيرها لمؤسساتها وقراراتها التنظيمية.
فمتى أثبت التنظيم الإسلامي أنه جزيرة من جزر الحرية في الفضاء السياسي العام الملوث بلوثات الاستبداد، وأن الشورى ونواظمها تحفظ وحدته رغم كل التقلبات والابتلاءات، ثم متى أقنع باقي المكونات السياسية أن تصوره السياسي المستقبلي تصور يجمع ولا يفرق، يقبل التعدد ولا يقصي، يحتكم إلى اختيارات الأمة ولا يجعل نفسه وصيا عليها، يكن عندها قد قطع شوطا كبيرا في التأسيس لوعي سياسي عام يتقبل الاختيار الإسلامي بشوق، ويكون المقدمة لترسيم الحدود الفاصلة مع دين الانقياد.
لكن تتنظيمات من الحركة الإسلامية مازالت تتنازعها اقتناعان في فهم الشورى، اقتناع تشكل بفعل الإرث التاريخي وآخر تشكل بفعل التثاقف مع الفكر الغربي، وهاك بعض التفصيل.
تبحث جماعات إسلامية في التراث الفقهي والسياسي والتنظيمي عن فهم الشورى القرآنية وكيفية تنزيلها في واقعها التنظيمي؛ فلا يسعفها هذا الإرث التاريخي إلا بدروس الانتصار لنموذج التدبير الفردي لأمور الجماعة. فقد انطمست الشورى في نموذج الحكم في تاريخ المسلمين بعد أن اندرست معالم الشورى مبكرا مع تجربة الخلافة الراشدة، وتحول المسار إلى “خلافة” شاردة جعلت وراثة الحكم أصل الأصول في فقه الأحكام السلطانية، وهو أصل تجذر في المنظومة السياسية الإسلامية تجذرا غريبا حتى لم يستطع الفكاك منه حتى القادة العظام والسلاطين الصالحون الذين لمع نجمهم في سماء الأمة السياسي المظلم، ويكفي الاعتبار بالجهود الجبارة المباركة التي بذلها السلطان الصالح المجاهد صلاح الدين الأيوبي في القضاء على الدولة العبيدية في مصر، وجمع الأمة التي كانت أنكاثا أشتاتا، وقتال الصليبيين وإخراجهم من بيت المقدس، لكن السلطة وليها من بعد وفاته أبناؤه، فأعادوا الأمة إلى مرحلة التمزيع والتفرقة والحرب الأهلية بعد أن ملك الابن الأكبر نورالدين علي دمشق، وسيطر الابن الثاني المدعو بالملك العزيز عثمان على مصر، واستحوذ الظاهر غازي الابن الثالث على حلب.. وهذا يبرز أن ولاية الأمة على نفسها في اختيار ولاتها أمر تنوسي حتى اندثرت معالمه، وأصبح الانتماء إلى القبيلة والأسرة الفيصل في تولي أمر المسلمين، ولغدوه من المسلمات سار في ركابه حتى رجال السلطة المؤمنون المجاهدون، أمثال: عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين.
زاد من انطماس الشورى في الفقه السياسي والتنظيمي للأمة مسايرة العلماء لأهواء الحكام. وقع التحول تدريجيا وعبر أجيال متلاحقة، فبعد أن كان الرعيل الأول يميز بين الخلافة والملك بقيام الأولى على الشورى وارتكاز الثاني على التوريث بالسيف كما نجد في مقالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري: “إن الإمرة ما اؤتمر فيها، وإن الملك ما غلب عليه بالسيف”[1]، أصبحت “الخلافة” تعقد بالتوريث دون أن تثير أي جدل، “ويكفي أن ننتبه كيف أن الفقه السني تمايز نظريا عن الفقه الشيعي في أن الإمامة تكون بالاختيار لا بالنص، وهذا يوحي أن الفقهاء ينتصرون لاختيار الأمة لأئمتها، لكنهم ما لبثوا أن جعلوا اختيار الأمة اختيار أهل الحل والعقد فيها، ثم اكتفوا بأهل الحل والعقد في بلدة الإمام، ثم تجادلوا في عددهم فذهب كثير منهم أن الواحد والاثنين منهم كاف، ثم أثبتوا شرعية استخلاف الإمام ابنه أو أخاه، ثم قاسوا عمل الإمام الذي يرتب الإمامة في اثنين أو ثلاثة من آل بيته من بعده على عمل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمّر على جيش مؤتة زيد بن حارثة، ويخلفه جعفر بن أبي طالب عند إصابته، ثم عبد الله بن رواحة، ثم انتهى الأمر بالفقهاء إلى الإفتاء أن الإمامة تنعقد بغير بيعة بعد أن جوزوا الاستيلاء على منصب الخلافة بالعنف والقهر… لقد ظل الفقه يتدحرج في تبرير الواقع حتى صار من قواعده في الإمامة: “من اشتدت وطأته، وجبت طاعته”، و”نحن مع من غلب”!”[2].
وقام الأئمة من آل البيت ضد الحكام الظلمة، ولأسباب امتزج فيها النسب الشريف، والعرف القبلي، والإمامة في العلم، والقوة في الخطاب والموقف، وشراسة الخصوم الحاكمين، بُني الفقه السياسي عند أشياع آل البيت على أن الإمامة تتوارث في نسبهم، وصية من أب إلى ابن أو أخ، ولمّا كان يأذن الله بقيام دولة تنتسب إليهم لم تكن تخرج عن مسار الاستخلاف، وبذلك استكمل التوريث شرط التسليم به كليا، مادام قد أصبح الخيار المعتمد عند السلطة والمعارضة.
وانطمست الشورى في البنيات التنظيمية للمجتمع، ولم تشكل الزاوية والطريقة الصوفية استثناء ضمن هذه البنيات، إذ “تَنبُتُ بعد الشيخ المؤسِّس نابتة الأجيال التي لم تترب إلا على تقبيل يدي ولد الشيخ، والسبق إلى تلبية رغبات ولد الشيخ، وخدمة ولد الشيخ، والتبرك بولد الشيخ. فتنتفخ نفس ولد الشيخ فإذا هو أمير مملكة، وإذا الطريقة وسيلة للإثراء ومباءة للبدع. أستغفر الله، فمن أبناء المشايخ صالحون”[3].
ولقد قامت تنظيمات من الحركة الإسلامية تنفض عنها هذه الاجتهادات التي استُعملت قرونا مظلة فقهية وسياسية للاستبداد، فكان أن أعيد قراءة النص القرآني والحديث النبوي في موضوع الشورى على ضوء تجارب النسق التنظيمي الغربي، والذي أثبتت فيه الديمقراطية عمليا قدرتها على دفع استبداد السلطة عن المجتمع بفصلها إلى سلط يحد بعضها بعضا، وبالإقرار بسيادة الشعب في اختيار قادته، وبتثبيت أن رئاسة الدولة، والحزب أيضا، يكون لأجل معلوم قد لا يقبل التجديد إلا مرة واحدة.
وهذه أمور تبنتها تنظيمات إسلامية عدة، فأصبحت الشورى عندها رديفة الديمقراطية، وصاحب ذلك حصر مهمة القيادة في التدبير السياسي والتنظيمي، فاستمرارها رهين بتجديد العهد لها في المؤتمر العام، والحسم في اختيار هذا المسؤول أو ذاك القرار يعتمد على رأي الأغلبية المطلقة، ثم وقر في التنظيم استواء أعضائه على قاعدة أن كل عضو يساوي صوتا، ثم تنامت في التنظيم روح المنافسة الحزبية، وأصبح التقدم للمناصب غير منكر فيها، والحرص على الاستمرار في قيادة التنظيم بأساليب ملتوية أمرا مألوفا، والفرح بالمنصب لا يثير عجبا ولا استغرابا. ثم بلغ الأمر شأوا آخر، بعد أن أصبح التنظيم ينشق على نفسه تحت عدة مسوغات، وإنما هو صراع الزعامات يتخفى وراء رزمة من الشعارات، وإذا بالدعوة جُلبٌ، سحاب بلا ماء، تكتب سيرتها بنفس المداد الذي كتبت به سير السابقين من الأحزاب، وإن تميزت عنهم بالشارة والعنوان.
[1] ابن سعد ” الطبقات الكبرى”. 4/113
[2] خالد العسري ” الشورى المغيبة: الشورى بين نصوص الوحي ومسارات التاريخ”. ص 116
[3] عبد السلام ياسين: الإحسان 2/223