التشريع والأخلاق:(محمد عصام تليمة)
امتاز التشريع الإسلامي بأنه لا يفصل بين الجانب التشريعي والجانب الأخلاقي، أو ما يمكن تسميته في عصرنا: الجانب القانوني والأخلاقي. فمعظم الأوامر والنواهي ترتبط بجانب خلقي مقصود، وذلك بهدف عدم الفصل بينهما، بل المزج المتعمد، وذلك لما بينهما من صلة وتلازم، لا ينفك كلاهما عن الآخر، وهو ما ينافي النظرة القانونية المادية، أو العلمانية، أو كل نظرة تفصل بين الدين والأخلاق، أو الدين والاقتصاد، وهكذا.
ولست هنا معنيا بالرد على نظرية الفصل بين التشريع أو الدين، ومجالات الحياة، بل الهدف هنا هو إبراز هذا الوجه المهم من تشريعنا الإسلامي، ولعل من أهم فقهائنا المعاصرين من ألمحوا لهذا الجانب هو المرحوم العلامة الدكتور محمد يوسف موسى، وبحكم أنه درس الأخلاق والفلسفة ودرسها، فقد كان من أفضل من ألمح لذلك وأبرزه في أكثر من كتاب له، ولكنه لم يفصله تفصيلا، وكنا نتمنى لو أفرد له فصلا كاملا، أو كتابا من كتبه، أو بحثا، وهو بذلك جدير، فقد تناول الموضوع في كتبه: المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، والفقه الإسلامي مدخل لدرساته ونظام المعاملات فيه، والأموال وانظرية العقد في الفقه الإسلامي.
وكذلك تناول شيخنا القرضاوي الموضوع من اتجاه معين، وذلك في كتابه: (المدخل لدراسة الشريعة)، عند حديثه عن: خصائص الشريعة الإسلامية، فأفرد عدة صفحات عن خصيصة الأخلاق وربطها بالشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي كذلك، وإن كان تناوله لها من جانب آخر غير ما تناوله أستاذه محمد يوسف موسى.
ولا تزال هناك مساحات مهمة في الموضوع، تحتاج لتفصيل وتأصيل، وهو ما يلقي بالتبعة على الباحثين في زماننا من أهل الاختصاص، من تسليط الضوء على هذه المسألة، وفي مؤسسة قطر التعليمية بجامعة حمد، كلية الدراسات الإسلامية، يوجد مركز معني بهذا الجانب، تحت اسم: مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، وقد قام باحثون بدراسات حول الموضوع من عدة جوانب، وإن بقيت جوانب أخرى مهمة تتسع للبحث والدراسة.
وسوف أحاول في مقالي هنا التقاط إشارات سريعة وعابرة من خلال القرآن الكريم في آيات التشريع، وسوف يكون تركيزنا على الآيات المتعلقة بتشريع المعاملات، فارتباط الآيات المتعلقة بالعبادات بالأخلاق واضح وبين، فمن تأمل آيات الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، سيجدها مقرونة بالأخلاق بشكل واضح، ولكن الحديث عن المعاملات أمر عزيز التناول، وإن كان واضحا بجلاء كما سنرى.
ففي حديث القرآن عن المعاملات المالية، من عقود، وبيع وشراء، إلى آخر المعاملات المالية بشتى فروعها، نجد التشريع الإسلامي يربط بينها والأخلاق، ففي حديث القرآن عن الديون وعسر المدين، يقول تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة: 280، وهو ما فصله النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى”.
وفي حديث القرآن في أطول آية فيه، وهي آية الدين أو (المداينة) يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله، فيكتب وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) البقرة: 282.
وعند حديث القرآن الكريم عما يطلق عليه في الدراسات الإسلامية حاليا: الأحوال الشخصية، أي: ما يتعلق بالنكاح والطلاق والميراث والنفقة إلى آخره، نجد القرآن الكريم يربط كل هذه الأحكام بالجانب الأخلاقي، سواء عند التراضي أو الخلاف، يقول تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) البقرة: 229، ويقول تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلك أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة: 232.
وفي حديث القرآن عن المواريث يلح في تذكير الناس بالأخلاق، لأن وقت الميراث هو وقت صراع على المال والثروة، وما تركه الميت، وفي هذه الحالة ينسى الناس الجانب الأخلاقي، فينص القرآن على ذلك بقوله: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا. وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) النساء: 9،8. ويختم القرآن الآيات التي تتحدث عن قسمة المواريث، ونصيب كل وارث، بهذا التذكير الإلهي المهم، فيقول تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) النساء: 14،13.
بل إن المتأمل لآيات التشريع المتعلقة بالحدود الشرعية، والتي هي عقوبات، يجد حديثها كذلك لا يفصل بين التشريع والأخلاق، ولو كان في ميدان العقوبة، فرغم بيان القرآن على أن القصاص مهم للحفاظ على الحياة، بل جعله حياة، فقال: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) البقرة: 179، وعند حديثه ببيان العقوبة في القتل، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)، ومع ذلك ختم آية القصاص في القتلى، بقوله: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) البقرة: 178، فربط الأمر بالمعروف والإحسان، والعفو، وهي كلها أخلاق ترقى بالإنسان، وتغرس بين الناس روح العفو والتسامح، فالعدل يسير جنبا إلى جنب مع الفضل والعفو.
ورغم أن الحديث عن الحدود في القرآن الكريم، مرتبط بالقوة والعزة، فهو حديث إقامة العدل، وردع كل معتد، ومع ذلك لا تخلو أجواء الحديث عن الأخلاق، سواء كانت أخلاق العدل وإقامتها، أو أخلاق العفو، فيقول عن حد الزنى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) النور: 2، وبعد تكملة سورة النور الحديث عن منظومة الحدود المتعلقة بالعرض، من حد الزنى، وحد اللعان، وحد القذف، يتحدث القرآن عن سياقها، وهو حديث الإفك، المتعلق بالخوض في عرض السيدة عائشة رضي الله عنها، فنجد القرآن الكريم أيضا ينص على التذكير بالأخلاق، (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) النور: 22.
بل إن آيات الحرب والجهاد رغم أنها سياق حرب وقتل، ورد عدوان، إلا أنها لم تخل من النص والتذكير بالجانب الأخلاقي فقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة: 190. ومن تتبع التشريع الإسلامي في باب الجهاد: قبل الحرب، وأثناء الحرب، وبعد الحرب، يجده يذكر المسلم بالجانب الأخلاقي، حتى لا يدفعه القتال لتجاوز الأخلاق.
حديث التشريع الإسلامي من خلال القرآن والسنة، عن ربط التشريع بالأخلاق، يسير على هذه الخطى التي ذكرنا طرفا منها، بمجرد سرد بعض الآيات فقط، فضلا عن التفاصيل الدقيقة، واللطائف العلمية التي يقطف ثمراتها كل متأمل لكتاب الله وسنة رسوله في هذا المجال، وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن الإسلام دين شامل لكل مجالات الحياة، ولا فصل فيه بين التشريع والأخلاق، ولا بين مجالات الحياة والخلق الإسلامي.