قراءة في كتاب: من الحريم إلى الفتنة صورة الإسلام في هولندا:(التيجاني بولعوالي)_1_
من الحريم إلى الفتنة!
عُقد شبه إجماع إعلامي وفكري في هولندا على اعتبار كتاب “من الحريم إلى الفتنة، صورة الإسلام في هولندا ما بين 1848 و2010”[1] من أفضل الدراسات العلمية التي اشتغلت على موضوع الإسلام، سواء من حيث المنهج أو من حيث المحتوى أو من حيث الحجم. هناك من خلص إلى أنّ “هذا العمل ذو طابع شمولي يتعرّض إلى العديد من الحساسيّات الثقافية التي تناولت الإسلام، ويقدّم معالجة تاريخية واجتماعية متميزة”. وهناك من رأى “أنّ خاصية هذا الكتاب تتحدد في أنّه تمكّن من تناول وتسجيل قرن ونصف من صورة الإسلام في هولندا، وهذا ليس بالأمر الهين، بل وقد تم إعداد ذلك كله في هذا المصنف”، لذلك “فإنّ اقتناء هذا المؤلف لازم وواجب على كل مهتم بالإسلام في هولندا”، حسب ما ذهب إليه رأي آخر.
وقد سعت هذه الدراسة الشاملة المحكمة إلى الإسهام في توضيح النقاش السوسيو- ثقافي الدائر حول الإسلام وإثرائه، وهي تشكّل المجلد الأخير من الدراسات الثلاث؛ الثلاثية التي عالجت صورة الآخرين في هولندا. وقد نشر المجلد الأول حول صورة اليهودية سنة 2006 تحت عنوان: المرآة المظلمة. ثم تلاه المجلد الثاني حول صورة الأديان الشرقية، وتحديدًا البوذية لدى الهولنديين، الذي ظهر سنة 2009 تحت عنوان: زهرة اللوتس في الأراضي المنخفضة، وتوّج بالميدالية الذهبية لجمعية تايلار. أما المجلد الأخير (أكثر من 700 صفحة من الحجم الكبير)، فقد خصص لصورة الإسلام في هولندا أثناء الـ150 سنة الأخيرة، بالتركيز على البعدين الاجتماعي والديني، وذلك في ضوء آراء مختلف اللاهوتيين والأنثروبولوجيين والإسلامولوجيين والسياسيين والإعلاميين الهولنديين وأقوالهم.
وقد اشترك في تأليف هذا العمل الضخم كل من اللاهوتي مارسل بورتهاوس (1955) واللاهوتي والمؤرخ ثيو سلامنك (1946)، اللذين يعملان في حقل علم الأديان الكاثولوكي بجامعة تيلبورخ في هولندا.
ينطلق مؤلفا دراسة “من الحريم إلى الفتنة” من أنّ صورة الإسلام في هولندا تتراوح بين قطبين جوهريين؛ أوّلهما “قطب الحريم” الذي يشمل شتى الصور النمطية المنسوجة حول الشرق والإسلام والثقافة العربية، كالجغرافيا البعيدة الغامضة، والجاذبية الشرقية، والألحان الغرائبية، والسحر الأنثوي، والكرم الشرقي، والعلاقات الغرامية، وهذا كله ينطوي تحت عالم ألف ليلة وليلة. في مقابل ذلك، ينتصب القطب الثاني؛ “قطب الفتنة”، الذي يعني عالم العنف والخطر، الإرهاب والأصولية، لا سيّما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، كما يشير إلى صور المسلمين الذين يزرعون الكراهية والخراب في الغرب.
فضلاً عن ذلك، تنتشر صور أخرى بين هذين القطبين المتباعدين، صور قديمة وأخرى حديثة، صور سلبية وأخرى إيجابية. صور الإسلام الوثني والدين الشيطاني والمسلم، باعتباره من “ذرية إبراهيم”. صور لثقافة متخلفة أو سامية، لديانة توحيدية منغلقة أو دين متسامح يتجاوز العرق والثقافة. صور الإسلام التاريخي أو الإسلام المهدد كما نظر له الفلاسفة. صور الإسلام بكونه مصدر القيم والعادات، أو خطرًا على المجال العام.
ولعل هذه الصور المتنوعة والمتناقضة كلها من شأنها أن تكشف عن الكيفية التي نظر بها الهولندي طوال نصف قرن من الزمن إلى الإسلام من جهة، بل وأكثر من ذلك كيف كان يتصوّر نفسه من خلال تلك النظرات إلى الآخر من جهة ثانية. لا سيما وأنّ الإنسان يقوم بتحديد هويته الخاصة عن طريق تنميط الآخرين، أحيانًا عبر القياس، وأحيانًا أخرى عبر المخالفة.[2]
على هذا المنوال، يمضي مؤلّفا الكتاب وهما يستقصيان مراحل جد معقدة من التاريخ قصد الوقوف على طبيعة التصور الذي ظل يحمله الإنسان الهولندي حول الإسلام والمسلمين، وهما يسعيان بجهد معرفي ومنهجي كبير نحو الإجابة على مختلف الأسئلة الإشكالية التي تؤثث فصول هذه الدراسة ومباحثها. ما هي الصور السائدة في هولندا حول الإسلام؟ متى نشأت هذه الصور؟ وما هي الصور التي اختفت؟ وما هي الصور التي تم إعادة تداولها؟ وماذا تقول هذه الصور حول كفاح الهولنديين القدامى والجدد قصد صياغة هوية جديدة في مجتمع سريع التغير؟
الكتاب ومحتوياته:
إنّ كتاب “من الحريم إلى الفتنة” يصنف في إطار الدراسات العلمية الشمولية الموسعة، ما دام يسلط الضوء على موضوع عريض يستغرق مرحلة زمنية طويلة تمتد عبر قرن ونصف من الزمن؛ فكان من الطبيعي أن يظهر في حجم ضخم يتعدى 700 صفحة من القياس الكبير، ولا يعني ذلك أنّ صاحبيه أسهبا كثيرًا في الحديث عن الإسلام، بقدر ما يعني ذلك أنّهما أفلحا في أن يوفّقا بين ما هو كمّي وما هو كيفي في تأليف هذه الدراسة، التي اقتضت قدرًا هائلاً من المعطيات التاريخية والاجتماعية والدينية والعلمية قصد استيعاب قضية تتّخذ أبعادًا إشكاليةً في السياق الغربي بوجه عام والهولندي بوجه خاص. وقد تمّ تقسيم هذا الكتاب إلى تسعة أجزاء تتوزّعها العديد من الفصول والمباحث.
الجزء الأول: المرحلة المبكرة 1848- 1945
يميّز الباحثان في هذا الجزء بين ثلاثة أصناف من الإسلام؛ أولهما “الإسلام التاريخي” من خلال الدراسات المبكرة التي ألفت في ما كان يطلق عليه جمهورية الأقاليم السبعة؛ أي هولندا ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ويمثل هذا التيار العلمي الذي انكب على دراسة الإسلام أثناء تلك المرحلة كل من راينهاردت دوزي، وإكناز غولدزيهر، وهنري لامنس وسنوك هورخرونيو، وأرنت يان فينسينك؛ وثانيهما “الإسلام الخطير” الذي يحيل على مرحلة القرون الوسطى التي شهدت الحروب الصليبية، وقد صور الإسلام آنئذ بمثابة خطر يهدد أوروبا المسيحية، وسوف يهيمن ذلك على المخيال الشعبي الهولندي أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين، فيتمّ إعادة إنتاج صور الخوف القديم وتداولها من جديد بين أوساط المجتمع الهولندي؛ وثالثهما “الإسلام الغرائبي”، وهو الإسلام الذي أنتجه علم الاستشراق عبر الكتابات الأدبية والروائية واللوحات الفنية والدراسات الأكاديمية، وقد تم تناول بعض أسماء الرحالة والفنانين الهولنديين في هذا الصدد، كأنتون بيك ولويس كوبيروس وجاكوب فان لوي وغيرهم. بالإضافة إلى ذلك، تعرّض الباحثان في هذا الجزء إلى صورة الإسلام في المصادر المسيحية، سواء البروتستانتية أم الكاثوليكية، كما تريثا عند مسألة الصهيونية في الشرق الأوسط وناقشا مواقف كل من الاشتراكيين والبروتيستانت والكاثوليك منها، وسلّطا بعض الضوء على وعد بلفور.[3]
الجزء الثاني: تحوّل في السنوات الثلاثين
قام الباحثان في هذا الجزء بدراسة صورة الإسلام لدى الكاثوليك والبروتستانت أثناء السنوات الثلاثين من القرن الماضي. وقد توصّلا إلى أنّ هذين المعتقدين المسيحيين كانا يقفان على طرفي نقيض في نظرتهما إلى الدين الإسلامي. فإذا كان الإسلامولوجيون الكاثوليك، أمثال زوتمولدر وجوسف هوبن وغيرهما، قد عبروا عن تقديرهم للإسلام، فإنّ علماء الدين البروتستانتيين من أمثال هندريك كرامر وجوهانيس فيركويل وأرنك فان ليوان قد أساؤوا إلى الإسلام واعتبروه دينًا وثنيًّا وغير إنجيلي، في حين تشكّل المسيحية الدين الحقيقي السامي، أما الإسلام فهو دين زائف ومنحطّ.[4]
ويُفسر موقف الكاثوليك الإيجابي من الإسلام بتأثير المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي كان يركّز على القواسم المشتركة بين الديانات الإبراهيمية التوحيدية الثلاث: اليهودية، المسيحية والإسلام، ولعلّ احتكاكه المباشر مع الواقع العربي والإسلامي جعله يطلع عن كثب على حقيقة الإسلام وما يدعو إليه من قيم إنسانية سامية، وهكذا سوف يعتبر واحدًا من كبار ملهمي حوار الأديان أثناء مجلس الفاتيكان الثاني. على النقيض من ذلك، قارن اللاهوتي البروتستانتي الكبير كارل بارث بين الإسلام والاشتراكية الوطنية معتبرًا إيّاها بمثابة إسلام جديد، وسوف يسلك مسلكه الكثير من علماء البروتستانت الذين ظلوا زمنًا طويلاً يشكّكون في حقيقة الدين الإسلامي.[5]