حول شرعية نسب ابن الزنى وتوريثه(عبد الله الجباري)
تضمن التراث الفقهي آراء مشهورة وأقوالا منثورة حول ولد الزنى، ومنها أنه لا يُنسب إلى أبيه الزاني، ولا يرث فيه أو في أقاربه، واستقر العمل بهذه الأقوال قرونا عديدة، وآمادا مديدة، حتى استقر في الوعي الجمعي أن الفقه لا يتضمن غيرها، ولا يسمح بالاجتهاد في مجالها.
ورغم ما لهذا القول المقارب من الإجماع من هيبة ومكانة، إلا أننا يممنا وجهنا نحو التراث الفقهي لسبر أغواره، والتفتيش في ذخائره، مع التأصيل والتدليل، لأن القول الفقهي لا يُلتفت إليه إلا إن قوي دليله، واعتضد بالحجة سبيله، فما هو دليل الجمهور في قولهم بعدم شرعية النسب والمنع من التوريث؟ وما هي حالات هذه المسألة؟ وهل القول الفقهي في مسألتنا صالح لكل العصور؟ أم يمكن تغييره وتبديله بناء على مبدأ تغير الفتوى بتغير العصر؟
أولا: حالات ابن الزنى وأحكامه.
ولد الزنى ليست له حالة واحدة، وتفصيل أحواله كالآتي:
1 – إن كان ابن الزنى من امرأة متزوجة ذات فراش، فإنه ينسب إلى زوجها صاحب الفراش، ولا تُقبل دعوى الزاني ولو أقر بأبوته له، لحديث: “الولد للفراش، وللعاهر الحجر”.
2 – إن كان الولدُ ابن زنى، ونَسبته أمه إلى رجل، دون أن يدعيه، استقر عمل الفقه في هذه المسألة على عدم نسبته إلى ذلك الرجل.
3 – إن كان ولد الزنى من امرأة ليست ذات فراش، ونسبه الزاني إليه، وأقر بأبوته له، فالجمهور لا يُثبت له نسباً لأبيه، ويقول بعدم توريثه، وجعلوا الزنى مانعا من موانع الإرث المرموز لها بقول الفرضيين: عش لك رزق.
وقال بإلحاقه بنسب أبيه/الزاني ثلة من أهل الفقه، منهم عروة بن الزبير وسليمان بن يسار والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وإسحاق بن راهويه وابن تيمية[1]، ورجحه ابن القيم وقال بقوّته ووضوحه[2]. وانتصر له من المعاصرين العلامة رشيد رضا[3]، والعلامة المحدث عبد العزيز بن الصديق الغماري[4]، والعلامة المقاصدي أحمد الريسوني[5]، وإذا أثبتوا له النسب، أثبتوا لوازمه وأحكامه، ومنها التوريث، قال ابن قدامة في المغني: “قال الحسن وابن سيرين: يَلحقُ الواطئَ إذا أقيم عليه الحدّ، ويرثه“.
ثانيا: أدلة عدم شرعية النسب والمنع من التوريث.
استدل الجمهور على عدم شرعية النسب ومنع التوريث بعدد من الأحاديث النبوية، أهمها:
الحديث الأول: “الولد للفراش، وللعاهر الحجر”[6].
الحديث الثاني: “من ادعى ولدا من غير رِشدة، فلا يرث، ولا يورث”[7].
الحديث الثالث: “من عاهَر أَمَة أو حرة، فولده ولد زنا، لا يرث ولا يورث”[8].
ثالثا: مناقشة الأدلة.
أول ما نلاحظه حول هذه الأدلة الشرعية، أن أشهرها وأصحها هو الحديث الأول، لكنه ليس نصا في مسألتنا، لأنه وارد في حالة نزاع وخصام بين مدعي الولد، وبين صاحب الفراش، أما الحالة التي نضعها تحت مبضع التشريح في دراستنا، فهي ادعاء الولد والإقرار به من قبل الزاني، حين تكون الأم الزانية غير متزوجة، ولا فراش ينازعه في دعواه.
أما الحديث الثاني، فضعيف بإجماع أهل الحديث لانقطاع سنده، رواه سلم بن أبي الزياد، قال: حدثني بعض أصحابنا، وهو رواية عن مجهول أو مجاهيل.
والحديث الثالث وقع فيه الخلاف بين المحدثين تبعا لاختلافهم في مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وعضد ابن القيم إلحاق ولد الزنى بأبيه بالقياس، فقال: “والقياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان يُلحق بأمه، ويُنسب إليها، وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وُجد الولد من ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدّعه غيره؟ فهذا محض القياس”[9].
ومما أستغربه في هذا الباب، أن كثيرا من الفقهاء تعاملوا بنوع من المرونة في إلحاق الولد بأبيه، فقالوا بأن المطلقة رجعيا إذا لم تقرّ بانقضاء عدتها، وولدت بعد سنتين أو عدة سنين من تاريخ طلاقها، يثبت نسب ولدها من مطلّقها[10]، وقالوا بإلحاق الابن بأبيه بناء على القرعة أو القافة، وهذه إثباتات واهية وضعيفة جدا. وفي المقابل، تشددوا كثيرا في منع نسبة ابن الزنى إلى أبيه، ولو أقرّ به، واعترف ببنوته.
ومن الغريب أيضا، مرونة الفقهاء في توريث غير أبناء الهالك، وتمسكهم وتشددهم بعدم توريث ابنه من الزنى. فقالوا بالتوريث بالاستلحاق، ومعناه: ادعاء المدعي أنه أب لغيره[11]، ومن أقوالهم في هذا الباب، أن الرجل مصدَّق في إلحاق ولد بفراشه، واشترطوا في الاستلحاق أن يكون المستلحَق مجهول النسب، ولا يُشترط فيه العلمُ بتقدّم ملك أُمّ هذا الولد أو نكاحها للمستلحِق، لذا قال الشيخ خليل: “ولو كذبته أمه”، وللاستلحاق صور، فيها توسّعات غريبة وطريفة، منها[12]:
أ – إذا استلحق الرجل ولدا لم يولد عنده، ولا عُلم أنه ملَك أمه بشراء ولا نكاح، فإنه يلحق به عند ابن القاسم وجماعة من الفقهاء.
ب – القول بتوريث من لا يثبت نسبه، مثل إذا مات شخص، وترك ابنين، وأقر أحدهما بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الثاني وكذّبه، فإن النسب لا يثبت، ويثبت استحقاق المال عند متقدمي أصحاب أبي حنيفة.
ج – لو مات صغير مجهول النسب، واستلحقه إنسان بعد وفاته، لحقه النسب، وورثه.
والاستلحاق قد يمارسه الرجل مع من يعتقد أنه ليس ابنا له، قال العلامة ابن عاشور: “وأما إذا قال لمن ليس بابنه: هو ابني، على معنى الاستلحاق، فيجري على حكمه إن كان المنسوب مجهول النسب، ولم يكن الناسب مريدا التلطف والتقريب”[13]. وهذا جلي وبيّن أن الفقهاء يلحقون الولد ويورثونه رغم أنه ليس ابنا، ولا يورثونه إلا بسبب عبارة قالها الرجل، وهي: “هو ابني”، فلماذا لا يورثون ابنه من الزنى إن قال عنه نفس العبارة إقرارا واعترافا؟ ولا دليل لهم في الرفض سوى حديث “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، وقد بيّنا أنه دليل في محل النزاع والخصام بين مدعي وبين صاحب فراش، وأنه ليس دليلا في موضوعنا.
والاستلحاق معترف به في منظومتنا القانونية، ففي المادة 158 من مدونة الأسرة المغربية، “يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب …”، ونصت المادة 157 أنه متى ثبت النسب بالاستلحاق أو بغيره، فإنه يترتب عليه جميع نتائج القرابة، ومنها استحقاق الإرث، والمادة 145 أصرح وأوضح، ونصها: “متى ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم القاضي، أصبح الولد شرعيا، يتبع أباه في نسبه ودينه، ويتوارثان، …”، والمدونة تميز بين البنوة الشرعية، والبنوة غير الشرعية.
بناء على هذا التمييز، قد يكون الولد ابنَ زنى من شخصين غير معروفين (مجهول النسب)، ويستلحقه الرجل، فيصير بالاستلحاق ابناً شرعياً له. وفي الوقت نفسه، قد يكون الولد ابن زنى من رجل معروف، ويُقرّ به، وتؤكد ذلك الأم، ومع ذلك لا يُعترف ببنوته، ولا تعتبر بنوة شرعية، ولا تترتب عليها نفقة ولا ميراث، وهذا لعمري من التفريق بين المتماثلات.
والذي أراه في هذا الباب، أن هذه المناقشات الفقهية التقليدية عفّى عليها الزمان، وأنها من التراث الماضي، وأرى أنه من اللائق أن يحصر النقاش وفق متطلبات عصرنا، وألا نعتقل فكرنا في عصر من سبقنا، وأن نستحضر أن فقهاءنا رحمهم الله اجتهدوا لعصرهم، وأفتوا وفق ظروفهم، لذا تحدثوا عن إلحاق الولد بالقرعة، وبالقافة، بل منهم من قال بجواز نسبة الولد إلى أبوين أو ثلاثة[14]، وكل هذا مرفوض وغير مقبول في عصرنا.
إذا استحضرنا التطور العلمي والطبي في تحليل الحمض النووي المعروف اختصارا بـ ADN، فإننا نختصر المسألة في ثلاثة أقوال:
الأول: إذا ادعى رجل ابنا بالزنى، ونازعه صاحب فراش، فالقول قولُ صاحب الفراش، والنص واضح في المسألة، صونا للأعراض وحفظا لها.
الثاني: إذا نسبت امرأة ليست ذات فراش ولدا إلى رجل، لا يجوز التمسك بالفقه التقليدي في هذه النازلة، بل لا بد من إجراء الفحوصات الطبية اللازمة لتحديد أبي الطفل، فإن ثبت ذلك نُسب إلى أبيه، وتوارثا، تحقيقا لمصلحة الابن. وفي المقابل، إذا لم تثبت النسبة إلى الرجل اعتمادا على التحاليل المخبرية، وجب التنصيص على إيقاع العقوبات الصارمة والقاسية على الأم، حتى لا نترك مجال الأعراض والأنساب كلأً مستباحا لأي أحد، دون أن ننسى إيقاع عقوبة الزنى – إن ثبت – على الطرفين.
الثالث: إذا اعترف الرجل وأقرّ بولده من الزنى، فإننا لا نسارع إلى إثبات البنوة والنسب، اعتمادا على ما ذهب إليه الحسن البصري وابن سيرين ومن معهما، حتى لا نفتح باب الفتنة على مصراعيه، حيث يمكن للرجل الذي لا ولد له[15]، ويريد حرمان إخوته أو أعمامه من الميراث، أن يعمد إلى أحد أبناء الزنى، ويدعي أنه من وقع على أمه، وأنه ابنه. ففي هذه الحالة، سنفتح الباب أم الدعاوى الباطلة، التي قد تترتب عليها مفاسد عظمى، لذا وجب اللجوء إلى الفحص الطبي المخبري، حفاظا على المصلحتين معا؛ مصلحة الابن، ومصلحة الورثة الآخرين؛ وإحقاقا للحق ابتداءً وانتهاءً[16].
وفي تراثنا الفقهي، نجد أنفسنا أمام المعادلة الآتية:
_ الابن يُنسب إلى أمه، رغم أنه ابن غير شرعي.
_ الابن لا ينسب إلى أبيه، لأنه ابن غير شرعي.
والمسوغ الوحيد المعتمد عليه في هذه التفرقة، هو أن الابن ابنُ المرأة قطعا، لا ظنّا أو شكّاً، ولفقهائنا القدامى العذر في هذا التمييز، لِمَا كانوا يفتقرون إليه من معدات وعلوم طبية موجودة في عصرنا.
وإذا ثبتت في عصرنا بنوة الابن من أبيه بالقطع واليقين، بناء على التحاليل المخبرية الطبية، فإننا نصير أمام المعادلة الآتية:
_الابن يُنسب إلى أمه، لأنها أحد طرفي الزنى، ولأنه منسوب إليها قطعا.
_الابن يُنسب إلى أبيه، لأنه أحد طرفي الزنى، ولأنه منسوب إليه قطعا.
وهكذا نحدث توليفة، نحترم من خلالها المنطق والنصوص والعقل والقياس، دون تقديس التراث، مع احترام أهله وأربابه، وقد وجدت عبارة للعلامة رشيد رضا، يُفهم منها قوله بتوريث ابن الزنى إن استلحقه أبوه، قال رحمه الله في سياق الانتصار لمن قال بتحريم زواج الرجل من بنته من الزنى: “وهذا هو الظاهر المتبادر في حق من علم أنها ابنته، وإن كانت لا ترثه إلا إذا استلحقها، لأن الإرث حق تابع لثبوت النسب، وإنما يثبت النسب بالفراش، أو الاستلحاق، وولد الزنى ليس ولد فراش، فلا نسَب له، ولا إرث، ما لم يُستلحَق”[17]، وهي عبارة واضحة، تدل على أن ابن الزنى يرث بعد الاستلحاق، وهو قول سديد، ورأي رجيح.
وبعض المتحمسين، يصفون الرأي القائل بضرورة نسبة ابن الزنى إلى أبيه، بأنه يشجع على الزنى ويحض على الفساد، وهذه لعمري تهمة كاسدة، وبيان ذلك من خلال الآتي:
أ – إذا كانت نسبة ولد الزنى إلى أبيه تشجعا على الزنى، فإن عدم النسبة تحارب الزنى ضرورةً، والواقع بخلاف ذلك، لأن عدم نسبة الأولاد إلى آبائهم تشريعٌ معتمدٌ منذ قرون، والزنى لم يحارَب ولم ينقص، بل هو في اطراد وتزايد.
ب – الذي يزني ويذهب إلى حال سبيله، دون أن يتحمل تبعة فعله، وعاقبة جرمه، يبقى خفيف الأعباء طول حياته، لا يتحمل مسؤولية أبنائه الذين من مائه، وهذا هو عين التشجيع على الزنى. أما إذا شرعنا نسبة أولاد الزنى إلى آبائهم، وأحسّ الزناة أنهم سيتحملون عاقبة جرمهم، وسينفقون على أبنائهم، إلى آخر المسؤوليات التي سيكتوون بثقلها، فقد يرعوون عن الزنى، وقد يكون لهذا التشريع أثر في الحد منه، وليس سببا للتشجيع عليه كما يدعي أولئك المتحمسون.
ج – حين ننسب ابن الزنى إلى أمه، نُحمّلها وحدها مسؤولية ذلك الابن، رعايةً وحضانةً وإنفاقاً، وتدريساً وتربيةً وكسوةً، وهلم جرا من المسؤوليات والتبعات. أما شريكها في الجرم والمخالفة، فلا يتحمل شيئا مما تتحمل هي، ويبقى طول حياته خفيف الظل. وهذا التشريع تفريقٌ بين متماثلين، لأن المرأة زانيةٌ أنجبت، والرجل زانٍ أنجب. فتحميل الأم وحدها مسؤولية الابن، تشريعٌ قديم، كان صالحا في عصور خلت، أما في عصرنا، فهو تشريع لا علاقة له بالعدل، ولا يمت بصلة إلى الإحسان، والله أمرنا بهما معا، “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى”.
[1] سئل ابن تيمية عن نازلة مفادها أن جارية زنت مع رجل ومع غيره، ولما ولدت نسبته إلى ولد ذلك الرجل، واستلحقه، فقال: “إن كان الولد استلحقه في حياته، وقال: هذا ابني، لحقه النسب، وكان من أولاده، إذا لم يكن له أب يعرف غيره”. مجموع الفتاوى: 31/374.
[2] ابن قدامة، المغني: 6/345. ابن القيم، زاد المعاد: 5/381.
[3] قال رشيد رضا: “والظاهر أنه يجب على الرجل استلحاق ولده من الزنى، مع العلم بأنه ولده، بأن يكون زنى بامرأة ليست بذات فراش في طهر لم يلامسها فيه رجل قط، وبقيت محبوسة عن الرجال حتى ظهر حملها”. تفسير المنار: 4/382.
[4] عبد اللطيف جسوس، نجم من أعلام علماء السلف، في علماء الخلف: 169. حكى الأستاذ جسوس عن شيخه السيد عبد العزيز بن الصذيق أنه يصحح الحكم بثبوت النسب وإلحاق الولد ممن ينكره، إذا ثبت عن طريق تحليل الدم، أن دم المولود من دم الرجل المدعى عليه، ويرى الحكم بهذا أقوى من إلحاق الولد بالقافة.
[5] قال الدكتور أحمد الريسوني: “حين يعترف الزاني بولده من الزنى، ويتقدم لتحمل تبعاته ومسؤولياته في ذلك، ينبغي أن نكون بذلك سعداء، وأن نتمسك به، ونساعد عليه …” نظرية التقريب والتغليب: 373.
[6] متفق عليه، رواه البخاري في مواضع متعددة، منها كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات. ومسلم في كتاب النكاح، باب الولد للفراش، وتوقي الشبهات.
[7] رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب في ادعاء ولد الزنى.
[8] رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب في ادعاء ولد الزنى. الترمذي، أبواب الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث ولد الزنى. ابن ماجه، كتاب الفرائض، باب في ادعاء الولد.
[9] ابن القيم، زاد المعاد: 5/381.
[10] عبد الوهاب خلاف، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية: 192.
[11] ابن عرفة، المختصر الفقهي: 7/163.
[12] الدسوقي، الحاشية على الدردير: 3/412. الحطاب، مواهب الجليل: 5/240. الجويني، نهاية المطلب: 7/108 – 110.
[13] ابن عاشور، التحرير والتنوير: 21/264. والتلطف والتقريب هو أن يقول الرجل للطفل: يا بني، يا ولدي، أو غيرها من العبارات تلطفا وتحننا، لا استلحاقا.
[14] قال الإمام ابن رشد: “واختلفوا من هذا الباب، في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا الحكم بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة، والقافة عند العرب، هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي، وأبى الحكم بالقافة الكوفيون وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه إذا ادعى رجلان ولدا، كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا، مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد، وعند الجمهور من القائلين بهذا القول، أنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط، وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه”، وقال ابن رشد تعليقا على هذه الأقوال الفقهية: “وهذا كله تخليط، وإبطال للمعقول والمنقول”. بداية المجتهد: 2/356.
[15] لعقمه أو لعقم زوجته أو لمانع آخر.
[16] اللجوء إلى الفحص الطبي المخبري قد يعفينا من بعض الشروط الواردة في التراث الفقهي، والمنصوص عليها في مدونة الأسرة، مثل ضرورة موافقة المستلحَق إذا كان راشدا حين الاستلحاق، وأحقيته في رفع دعوى نفي النسب عند بلوغه سن الرشد إن استُلحِق قبل بلوغه. مع ما يترتب عن هذا الشرط من مشاكل، مثل إذا مات المستلحِق قبل بلوغ المستلحَق، فإن الأخير يستحق نصيبه من التركة، وإذا رفع دعوى نفي النسب بعد البلوغ، يكون ملزما بإرجاع نصيبه إلى الورثة الآخرين، أو إلى ورثتهم إن ماتوا، وقد يكون ذلك سببا لتوريث من تعرّض للحجب بسببه، وقد يضيع جزء من نصيبه من التركة بالاستهلاك أو البيع، فيكون ملزما بإرجاعه قيمةً أو عينا، وقد يطول الزمن بين التوريث ونفي النسب، (15 سنة مثلا)، فتقّل قيمة الشيء الموروث بناء على عوامل متعددة، وهو ما سيترتب عنه حيف في حق الورثة الآخرين، إلخ ما يثار في هذه المسألة، لذا كان الاعتماد على التحليل الطبي حاسما منذ البداية، مانعا من الوقوع في مثل هذه الإشكالات.
[17] رشيد رضا، تفسير المنار: 4/382.