حقيقة ما بعد الحقيقة (فتحي التريكي)
ليس قصدنا تأريخ مسار الحقيقة عبر التغيرات الزمنية المتواصلة؛ ذلك يتطلب بحثاً معمقاً وطويلاً لا يتحمله المكان المخصص لهذا المقال. همنا هنا في تكريم زميلنا وصديقنا الأستاذ محمد محجوب أن نحاول التفكير في المنزلة التي عليها الآن إشكالية الحقيقة في العولمة التي بدأت تأخذ شكلاً جديداً سماه البعض «ما بعد العولمة». لذلك، سنبدأ بالتساؤل عن الوضع الهش للإنسان الفرد في النسق الرأسمالي المتشدد والتحولات الإيديولوجية التي أبرزت مفهوم ما بعد الحقيقة وممارسة الشعبوية السياسية، لنخلص في الأخير لاقتراح إمكانات الصمود حتى يعود الإنسان إلى حقيقته.
وبعجالة لا بد من التذكير بأن حداثة الأنوار قامت على أسس ثلاثة: فالأول هو الذات الحرة المستقلة بذاتها، ونعني الوعي بالذات عندما حددت نظرة الذات العاقلة إلى نفسها ذاتيتها الأولية والمركزية من خلال عملها التفكيري المتواصل؛ أما عملية تحويل الذوات الأخرى إلى مواضيع يتسلط عليها العقل العلمي، فماهي إلا نتيجة لذلك. هذه الإشكالية هي التي بنى عليها ديكارت تأملاته ولايبنتس عقلانيته الصارمة وهيوم وكانط نقديتهما الإمبيرية بالنسبة إلى الأول والتأسيسية بالنسبة إلى الثاني، كما بنت الذات علاقاتها الشائكة مع الذوات الأخرى، إلا أن ذلك عند نيتشه وعند فلاسفة الاختلاف وفي فلسفات ما بعد الحداثة، أكذوبة ساحرة؛ لأن الذات ستكون سجينة المعنى والمعرفة، وأنها، في كل الأحوال، تحت تحكم «السلطة» بالمعنى الذي يعطيها إياها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ولعل اللاشعور (نيتشه) واللاوعي (فرويد) بواسطة اللغة والنقد والتشخيص، يمكن أن يحررا الذات من المتاهات التي خلقتها الحداثة العقلانية. وقد يذهب فوكو بعيدا عندما يبين لنا أن الإنسان من حيث هو فكرة مركزية، قد ولى وانتهى وحلت محله مجموعة معقدة من العلاقات التي تربط الأنا بالأنا الأعلى لتصل إلى الميكروسلطات. لذلك، تزعزع نوعاً ما النموذج الثقّافي التنويري؛ إذ خلقت الذات الكلاسيكية بواسطة عقلها الصارم فضاءات تعمل داخلها السلطة بصفتها أداة للحجز والإيواء كالثكنة العسكرية والمعمل والورشات الصناعية والمدارس والمآوي للعُجّز والمتخلفين والعاطلين وغيرها، فأصبحت المجتمعات بذلك مجتمعات استبعاد وإقصاء وحجز، وتأسّست السلطة على حركية كبرى للقهر.
أمّا الأس الثاني، فهو العقل الصارم الذي أنتج ما به ستكون التكنولوجيا في تطور مستمر. ولعل الفشل النسبي للعقلانية الكلاسيكية يكمن أساساً في محاولة إقصاء الوجدان في كل تمظهراته والتحكم في الحياة تحكماً عقلياً صارماً. أكد هابرماس وحدة العقل، عندما لاحظ أن هذه الوحدة قد وضعت موضع الشك والنقد باسم التنوع والكثرة والاختلاف، واعتبر أن هذه الوحدة تكمن في الممارسة التواصلية التي قد تعني بالنسبة إليه «وحدة العقل من حيث هي منبع لتحديد خطاباته». ولعله يرد بذلك على جماعة ما بعد الحداثة بأن يبين خطر تفرقع العقل الذي سيصبح عندئذ خاضعاً لاعتبارات جغراسياسية كأن نجد مثلاً عقلاً عربياً، وعقلاً إسلامياً، وعقلاً مسيحياً، وعقلاً أوروبياً، وآخر صينياً، وهكذا دواليك. فمن الصعب لا محالة إيجاد أرضية توحيدية للعقل الكوني، فقد أقرها نموذج الأنوار وأوجدها في الطبيعة البشرية، لكنه يمكننا أن نتحدث عن تمظهرات مختلفة للعقل، وهي معقوليات متعددة ومختلفة، وكل هذه المعقوليات تحكمها استدلالات تكوّن وحدة لإرادة مشتركة تكونت هي بدورها من التذاوت؛ أي من الوجود معاً، ومما سميناه بالتآنس. والتآنس يعني هنا العيش معاً لا من حيث هو ضرورة بقائية وحياتية فقط، بل وأيضاً من حيث هو وعي بأن السعادة البشرية تكمن في تواصلها الحتمي واتفاقاتها الممكنة. هذا التآنس في نظرنا هو القاسم المشترك الذي يوحد المعقوليات، ويبني من جديد وحدة العقل.
أمّا الأسّ الثالث والأخير، فيكمن في الحقيقة العلمية: لقد ارتكز الفكر في علاقته الشائكة بالوجود على محاولة إقرار الحقيقة الدائمة النهائية التي لا تشوبها شائبة. لذلك، اتجه العصر الكلاسيكي إلى العقل وصرامته ليبين لنا كيف تتجلى الحقيقة وجاءت فلسفة الطريقة (عند ديكارت وعند لايبنتس) استتباعا لذلك. فكان لابد من إرساء قواعد للخطاب العلمي، لكي تتجلى لنا حقيقة الأشياء، وكان لا بد من الابتعاد عن الذاتية لتأسيس القول من خلال الآليات التي اتبعها العقل في عملية إقصائه للخيال واللامتجانس.
فمركزية الذات وضرورة الحقيقة العلمية المطلقة والعقل الأدواتي التكنولوجي الصارم هي ملامح النموذج الثقافي التنويري. وكلّها قد عالجت قضية وحدة الوجود بمنطق يتضمن الوصول إلى توحيد كل مجالات الفكر والعمل. لا نتحدث عن وحدة العقل فقط، ولا عن وحدة المصير، بل عن تلك الوحدة الأنطولوجية التي ما انفكت الفلسفة ابتداء من أفلاطون إلى ديكارت وكانط تؤكدها وتبحث عن معطياتها ومقوماتها. وقد بينا في كتابنا (قراءات في فلسفة التنوع) كيف تم التحول من معقولية التوحيد إلى معقولية التنوع في العلوم والفلسفة والاجتماع. وقد أدت فلسفة التنوع إلى تحديث أعماق أنماط الحياة في المجتمعات الغربية التي أصبحت اليوم متعددة ذات اتجاهات مختلفة في وفرة الخيرات والمعارف والاتجاهات. في حقيقة الأمر، كان هذا التنوع حيوياً في تكريس حرية الفرد الأنطولوجية والسياسية والاجتماعية. والعولمة تكمن في القبض على تلابيب الفرد أينما كان، لتحوّله إلى عبد يستهلك إنتاجاتها الرمزية والمادية والروحية والمعنوية. وبذلك، عادت الوحدة من جديد لتهيمن بمنطق أشد إقصاء وأكثر استبداداً، وتجسدت هذه الوحدة في انصياع الكل إلى مقولات العولمة التي أصبحت بالنسبة إلى الغرب هي الحق، وهي الذات، وهي الواحد. فكأن حركة العلمانية التي قامت بها المعقولية الغربية منذ ديكارت إلى يومنا هذا قد عوضت وظيفة الدين والرمز في المجتمع بوظيفة السلطة القهرية الرأسمالية، فانحاز النموذج التنويري عن أهدافه.
في واقع الأمر تتزايد هشاشة[2] الإنسان الفرد في المجتمعات العالمية حاليا يوما بعد يوم مع التطور المدهش للتكنولوجيا في كل المجالات[3]. لا أتحدث فقط عن تكاثر الحوادث اليومية التي تؤدي أحيانا إلى الموت فقط، بل وأيضاً عن الأمراض الجديدة والمتجددة نتيجة التلوث والطاقة النووية التي دخلت بيوتنا بإشعاعاتها المختلفة. أتحدث أيضاً عن ظاهرة العنف الاجتماعي والسياسي الذي أخذ أشكالاً غير منتظرة كالجرائم المنظمة وكالإرهاب بأنواعه، وكلها قد التصقت بنمط الاقتصاد الرأسمالي في شكله المعولم. هذه المخاطر التي تضاف إلى المخاطر الطبيعية جعلت بعض المفكرين ينعتون مجتمعاتنا حاليا بمجتمعات الخطر والخوف على منوال الفيلسوف الألماني إولريش باك، في كتابه (مجتمع المخاطر: على طريق حداثة أخرى)[4]، الذي يؤكد «أن الإنتاج الاجتماعي للخيرات مرتبط بالإنتاج الاجتماعي للمخاطر»[5] ليس ثمة شك أن هذه المخاطر تكون أشد في الطبقات والمجتمعات الفقيرة والمهيمن عليها، باعتبار أن التكنولوجيا المنتجة للرعب قد تنتج أيضاً طرائق الاحتماء التي يتم تفعيلها لا لحماية الإنسان الفرد في حد ذاته، بل لحماية الطبقات المهيمنة اقتصاداً وسياسة.
ولابد أن ننبـه هنا إلى أن نقدنا للعقل التكنولوجي لا يبيح بأي حالة هدم ما توصلت إليه العلوم من نتائج باهرة تخدم الإنسان والمجتمع، كما لا يبيح للبعض بأن يرفعوا شعار فشل العقل العلمي والعودة إلى التقاليد الوجدانية. نقدنا هنا ينصب على نمط استعمال هذا العقل، وهذه التكنولوجيا المتطورة من قبل الإيديولوجيات العنيفة، ومن بينها الليبرالية العشوائية التي تزداد سيطرة في مجتمعات العولمة.
لنذكّر أنّ العولمة التي قد تم تحديدها اقتصادياً بالحرية المطلقة في اختيار الموقع لمؤسساتها في العالم وبفسخ الحدود التجارية بين الدول قد أدت إلى نتائج وخيمة لخـصها عمر أكتوف في كتابه (استراتيجية النعامة) كما يلي : «عندما يعيش 3 مليار من البشر، وهذا يقابل نصف عدد البشرية بأقلّ من 3 دولارات في اليوم، عندما يملك 225 ملياردير ما يساوي أملاك 2 مليار من الناس (…) عندما نعرف أن 90 بالمائة من اقتصاد العالم مضاربات، وأن الكتلة المالية (باستثناء الأسهم والسندات) التي يتم تداولها يومياً تمثل عشرة أضعاف قيمة الاحتياطيات المتراكمة لجميع البنوك المركزية في العالم (…) هل نكون بعيدين عن الهراء المطلق؟»[6]. ولعلنا نستطيع التعبير عن ذلك بمفهوم «العولمة المتشددة» التي تتميز بتشتت الأنشطة الاقتصادية على الصعيد العالمي، وبالتدفقات التجارية للسلع والخدمات وبشدة تدفقات رأس المال وتكاثر المعلومات والمعارف والهجرة المتواصلة التي تلبّي رغبات النمط الرأسمالي المتشدد؛ غير أن علماء الاقتصاد قد لاحظوا مؤخراً أن المؤسسات بدأت تمارس سياسة جديدة في العشر سنوات الأخيرة تتمثل في التمركز من جديد داخل بلدانها أو في المجموعة التي تنتمي إليها بلادها، إذ لم نعد نتحدث عن العالم كمقر للمؤسسة دون حدود، بل إن الحدود الاقتصادية بدأت تعود لتصبح عنصراً مهماً في الاستراتيجية الاقتصادية العالمية. فنحن نعيش بداية نظام عالمي جديد لعله سيكون نظام «ما بعد العولمة»، والذي بدأ ينتج نظاماً إيديولوجياً جديداً للسلطة.
فلا غرابة في أن يعيد هذا النظام الإيديولوجي الجديد الحيوية لمفاهيم وتصورات كانت فاعلة في فترة الدولة الوطنية، ونعني الوطنية والقومية والهوية والتراث وغيرها. ولكنه في الآن نفسه، قد وضع على الساحة السياسية مفهومين بدآ يأخذان أهمية قصوى؛ وأعني مفهوم «ما بعد الحقيقة»، ومفهوم «الشعبوية السياسية». لقد أعطى هذان المفهومان إمكانية واسعة للرأسمالية المتشددة، حتى تحشد الفئات الضعيفة من الشعوب لمساندة هذا النظام الجديد للعولمة. نضرب على ذلك مثال سياسة البراكسيت في بريطانيا حالياً، أو كيفية نجاح ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضاً الإيديولوجيات العنصرية التي تصاحب محاولات المتطرفين للوصول إلى الحكم، ونضيف أيضاً الشعبوية السياسية وازدواج الحقيقة عند الإسلاميين السياسيين بكل أصنافهم.
ماذا يعني مفهوم «ما بعد الحقيقة»[7]؟ لقد لاحظ علماء الاجتماع المختصون أن هذا المفهوم قد وُلد عندما تأزّمت العلاقة بين السياسة والإعلام في أوائل هذا القرن. ويبدو أن هذه الأزمة هي نتيجة حتمية لتقهقر دور الإعلام الكلاسيكي بالكتابة والصورة أمام تطور الإنترنت والتواصل الاجتماعي. ولابد هنا من التعمق شيئاً ما في هذه الأزمة لما لها من تأثير مباشر على نمط تكوّن مفهوم «ما بعد الحقيقة». لقد دأبت الصحافة المكتوبة ثم أجهزة الإعلام السمعية والمرئية على نشر ثقافة سياسية تقوم في الآن نفسه على التقاط المعلومة ونشر الأحداث وعلى تحليل كل ذلك وتفسيره ونقده. فالمتلقي كان بحاجة إلى معرفة الحدث وإلى التزود بهذه الثقافة لفهم ما يحوم حوله. كذلك الشأن بالنسبة إلى السياسي، فهو أيضاً يحتاج إلى هذه الثقافة، ليـلج بسهولة إلى الرأي العام، وليتمكن من حشده خدمة لأهدافه ومواقفه ومشروعه. فالهمّ الأكبر بالنسبة إلى الصحفي المحترف قد كان أساساً البحث المتواصل عن الحقيقة ومحاولة تعريتها وإعادة بنائها وصياغتها من خلال معطيات استقصاها من أبحاثه الدقيقة والمضنية مستعملاً في ذلك كل أدوات التفكير العقلي. لذلك كان الإعلامي بحق همزة وصل بين المعرفة والسياسة من جهة، وبين الرأي العام والمجتمع من ناحية أخرى.
أما الآن ونحن نعيش الثورة الرقمية الهائلة، فإن السياسي لم يعد يحتاج إلى البحوث والتحاليل الصحفية المركزة، لا لأنه يستطيع الحصول عليها من الكم الهائل من المعلومات الموجودة في الإنترنت فقط، بل لأنه يستطيع أيضاً بواسطتها، وبواسطة قنوات الاتصال الاجتماعي، التدخل في الحوارات العمومية كما يشاء ومتى يريد وحسب مشاريعه الأيديولوجية مستعملاً أدوات أخرى بجانب الأدوات العقلية مثل الوجدان والخطابة والسفسطة والبهتان والإيمان والتدين والتخريف وغيرها من الأدوات المؤثرة في العامة من الشعب. ولعله بذلك يستطيع حجب ما لا يعجبه من الأحداث وتغطية معطياتها وتغيير المواقف. فالأحزاب السياسية في البلدان الديمقراطية المهيمنة أضحت تعتمد هذه الطريقة الجديدة للإعلام حتى إن رئيس الولايات المتحدة أصبح يتواصل مع الرأي العام عن طريق تويتر، وأجبر بذلك وسائل الإعلام الكلاسيكية على أخذ المعلومة من هذه الوسيلة؛ ذلك يعني أن الوسائل الكلاسيكية للإعلام قد اضطرت للتأقلم مع هذه المعطيات الجديدة للثورة التكنولوجية الرقمية، فأقلعت بصفة عامة عن منهجية البحث والنقد وطلب الحقيقة، وأصبحت هي أيضاً تدغدغ العواطف وتعتمد الوجدان والولوج بسهولة إلى الرأي العام للمساهمة في تحديد وجهته ومواقفه بحثاً عن الأرباح السهلة والكثيفة.
ولابد من التوقف هنا قليلاً للتعمق فلسفياً في إشكالية ما بعد الحقيقة والتثبت من شرعية وصفها بالمفهوم. فلنذكّر بسرعة هنا بثلاث نقط ارتكاز في مسيرة فهمنا للحقيقة. ليست غايتنا تحليل تاريخ الحقيقة فذلك صعب المنال في هذا المجال الضيق، ولاسيما أن الحقيقة قد تحددت بكونها خارج التاريخ عابرة لمكوناته، إذ إنها تريد أن تظل كونية بما أنها تعني في الأصل تطابقاً بين الفكر والواقع العيني، وبين الكلمات والأشياء.
عندما وضع بارمنيدس لأول مرة مفهوم «أليثيا» (Alètheia) الذي يفيد «الحقيقة» مقابل «الدوكسا»؛ أي الرأي، أو الواقع مقابل المظهر، فقد أعطى للحقيقة وجودا منطقيا كونيا يتجاوز الظرف الإنساني. كذلك الشأن بالنسبة إلى الأديان التي أعطت للحقيقة بعداً وجدانيا كونياً خارج الزمن؛ إلا أننا نستطيع تمييز ثلاثة أنظمة منطقية للحقيقة. هناك النظام المعرفي الإبستمولوجي الذي يربطها وجوداً بتطور العلوم وتغيراته. هناك أيضاً النظام السياسي الذي يستحوذ عليها ليحبسها داخل أنساقها وطياتها المتعددة. وهناك أخيرا النظام الإيطيقي الأخلاقي الذي يجعل من الحقيقة ابنة الحياة اليومية. لقد تعوّدنا ألا نأخذ بعين الاعتبار إلا البعد المعرفي للحقيقة، حيث سنتصور أنها محضة صافية لا تشوبها شائبة بينما هي خاضعة للاستعمال العمومي، وبذلك ستكون عرضة للاستعمال السياسي والاجتماعي. فلم يعد الفلاسفة بعد نيتشه يقبلون بسهولة إطلاقية الحقيقة، بل إن العلماء بعد أينشتاين قد أقروا نسبية الحقيقة. لذلك أصبحنا نتحدث عنها بصيغة الجمع بصفتها تمظهراً تاريخياً تتحكم فيه ظروف ثقافية واقتصادية وسياسية.
وفي واقع الأمر، تبدو هذه النقط الثلاث مترابطة ومتشابكة، ولا يمكننا التمييز بينها إلاّ لضرورة الدرس والتحليل، مما يجعل الحقيقة ترزح في متاهات الخطاب؛ معنى ذلك أن الحقيقة لا تظهر للعيان إلا إذا قمنا برفع النقاب عنها، ويكون ذلك بالبحث والتدقيق وبتطوير العلوم والتكنولوجيا؛ ذلك ما لا شك فيه، ولكن الحقيقة تتوه دوما في السلطة إرادة وممارسة مع أنها ابنة إرادة المعرفة. يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى أبعد حد، عندما يرى أن إرادة المعرفة هي أداة من أدوات إرادة السلطة[8]. يستخلص فوكو أن الحقيقة في عملها هي قوة اجتماعية وسياسية همها الهيمنة أساساً[9] على المستويين الاجتماعي والسياسي. ولكنه في كتاباته الأخيرة[10] يضيف النظام الأخلاقي الإيطيقي لتحديد مجال الحقيقة التي تصبح في نظره بحثاً متواصلاً وجمعاً للمعطيات مع فرزها وتنظيمها بعد تحليلها، وهي التي تحدد في الأخير العلاقة بين الكلمات والأشياء. هذا التشكل الصعب بين الأنظمة الثلاثة للحقيقة وللخطاب جعل فوكو يتخلى عن استعمال مصطلح الحقيقة ويعوّضه بتعبير آخر يستقيه من فلاسفة الإغريق، وهو «باريزيا» أي «قول الحق» أو «الصدق في القول»[11]. هكذا تصبح الحقيقة، من حيث هي صدق في القول، مركز الفلسفة السياسية عند فوكو؛ لأنها وليدة النقد الجذري لعملها عندما تظهر في شكلها المطلق. فالحقيقة المطلقة التي يلتجئ إليها السياسي، والتي يجدها تارة في الدين، وتارة أخرى في النظريات الإيديولوجية تؤدي حتماً إلى الهيمنة المطلقة والاستبداد الدموي بواسطة أدوات فتاكة كالسجن والتعذيب والقتل والحروب والتصفية العرقية والإرهاب وغيرها من الوسائل غير الإنسانية.
هكذا إذن تخلـّت فلسفة الاختلاف عن هذه الحقيقة المطلقة ووجهتها نحو نوع من النسبية، لتغدو بحثاً متواصلاً تتطلب موافقة الغير بواسطة التقويم المتواصل والتـثبـت والتصديق. وكما أكّد ذلك فوكو، تكون الحقيقة قوة اجتماعية لا يمكن فصلها عن الذي ينتجها ويقولها، والذي يتثبت في صدقها؛ ذلك يتطلب حتما وجود نخبة معيّنة تقوم بالإنتاج الاجتماعي للحقيقة الذي يخضع طبعا لقوانين وقواعد منطقية وعلمية قد تكون عرضة للتغير، ولكنها تبقى ناجعة في مجملها.
وفي هذا الصدد، تقوم وسائل الإعلام بإيصال نتائج هذه الحقيقة من حيث هي بحث بصفة بيداغوجية، وهي أيضاً فرصة للتعرف على قيمتها وقوتها الاجتماعية ومدى مصداقيتها وكيفية تقبّـلها في الحياة اليومية. من هنا تكوّنت سلطة الإعلام الحقيقية بما أنها تمتلك «قول الحق» كما تمتلك آليات توضيحه وتفسيره وإيصاله إلى الناس تارة بحرفية واحترام أخلاقيات المهنة وتارة أخرى بعشوائية ودون أخلاق تذكر. فاستطاعت هذه الوسائل أن تستحوذ بواسطة التطور المستمر لتكنولوجيا الإعلام على سلطة توجيه الرأي العام والسيطرة عليه والتأثير على الاختيارات السياسية والثقافية، بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك، وأن نؤكّد أن الإعلام في البلدان الديمقراطية سيصبح عنصراً رئيساً من عناصر التغيير السياسي.
لا شك في أنّ الديمقراطيّة نفسها تقوم على ثقة الناس في المؤسسات التي تنتج الحقيقة كالجامعات ومراكز العلوم والمعرفة والفلاسفة والمنظّمات الدينية، وأنّ الإعلام من جرائد ومجلات وإذاعات وتلفزات قد كانت الواصل بين هذه المؤسسات والناس، بل أحياناً تلعب دوراً تثقيفياً وتعليمياً.
أما السياسيون، فهم يتعاملون بحذر شديد مع الإعلام ومع النخب المنتجة للحقيقة، ويحاولون بكل الطرائق احتكار كل السلط بما في ذلك سلطة الحقيقة. لذلك في كل أزمة وفي كل تغيير سياسي جذري كثيراً ما نجد أهل السياسة يتهجمون بعنف على وسائل الإعلام وأصحابها[12]. فالرّئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، ما انفك يهاجم الصحافيين وأهل الإعلام في حملته الانتخابية حتى يخضعهم إلى سلطته، بل لم يتحرج في شتم كل المؤسسات المنتجة والموزعة للحقيقة، وخاصة الجامعات والصحافيين والقضاة وغيرهم.
تقول المفكرة كريستين أورسيني ما يلي: «لقد كُتب الكثير عن التعبير الجديد ‘ما بعد الحقيقة’، آخر رمز لعصر ما بعد الحداثة منذ أن قام جماعة منجد أوكسفورد، باعتبارها في 2016 ‘كلمة السنة’، ذلك أحدث صدمة على كل حال؛ فأن نقول ‘الحقيقة ماتت’ مثل قولنا ‘الإله مات’. هكذا فإن الخطأ ليس وحده إنسانياً. فالحقيقة هي أيضاً ‘إنسانية مفرطة في إنسانيتها’. لقد تجاوزها الزمن. والسؤال البسيط ‘هل حقاً لم تعد الحقيقة موجودة؟’ هو تناقض في ذاته ويذكّرنا بالمأزق المنطقي للكاذب ‘فهو إذا كذب سيقول الحق وإذا قال الحق سيكذب’»[13].
ففي هذا الانتقاد الجذري وغير المسبوق لنمط إنتاج الحقيقة وُلدت فكرة «ما بعد الحقيقة»، حيث يجتهد بعض المفكرين والفلاسفة ليرفعوها إلى درجة المفهوم كما يجتهد آخرون على دحضها واعتبارها مرادفة للكذب والبهتان[14]. ولكنّنا في تحديدنا لهذه الفكرة، يجب أن نؤكّد الوضعية الجديدة للحقيقة بعد أن مرت بالمراحل والأنظمة التي ذكرناها سابقا. طبعا، قد يضطر من يستعمل «ما بعد الحقيقة» للكذب والبهتان لدعم أفكاره ونظرته الإيديولوجية للعالم، ولاسيما إذا كان هذا الكذب ناجعاً وفعالاً. ولكن تصور «ما بعد الحقيقة» أكثر خبثاً؛ فهو يصل إلى عامّة النّاس لابساً لباس الحقيقة التي يمكننا تدقيقها وتصديقها على المستوى الوجداني، بينما الكذب يكون قابلاً للـفضح عقلاً ووجداناً.
على هذا الأساس، يمكننا تأكيد الصبغة الوجدانية لفكرة «ما بعد الحقيقة». فالناشطون السياسيون الآن يزعمون في كثير من الأحيان أنهم يقولون الحق ويبحثون عن الحقيقة الصافية والآنية دون واسطة المفكرين والمثقفين، دون اللجوء إلى التحقق والتدقيق؛ أي دون مرجع علمي؛ وذلك لا يمكن أن يكون إلا على الصعيد الوجداني. أما العقل، فهو يتطلب حتما استعمال القوانين والقواعد المنطقية للتحقق من تماسك القول وتطابقه مع موضوعه.
عندما نتحدث عن الوجدان، فإننا نعني قبل كل شيء الدخول في علاقة مباشرة ودون واسطة مع الأشياء ومع الحياة بصفة عامة. لقد توصل الإنسان بعقله وإحساسه إلى معرفة ذاته والاعتراف بالآخر من حيث هو آخر له الحق بأن يعيش ويفكر ويختار ويبدع حسب إرادته وانطلاقاً من ثقافته وعقائده وطموحاته ولا من حيث هو نتيجة لإرادتي وتطبيقاً لاختياراتي. فالوجدانية قد تحرر العواطف وتكسر القيود للتقارب والتحابب والتآنس والاحترام والتسامح، ولكنها قد تبعث شحنات عدوانية وتسبب الكراهية والتقتيل وتصل إلى اللامعقول واللامقبول.
أما الوجدانية المنشودة، فهي التي تفجر الطاقات الإبداعية لسعادة البشر، وهي التي تعطي للروحانيات قيمتها العظيمة في الحياة، وهي التي تحرر الغرائز ليكون الإنسان حياً يتمتع بحياته وبإنسانيته. فالإنسان لن يكون عقلاً وحسب ولن يكون أداة وآلة؛ لأنه يعيش ويشعر لذة اختياراته وعقائده وروحانياته.
وفي الحقيقة، تكون مزية ما بعد الحداثة الكبرى في عودة الروح إلى موضعها الأساسي في الحياة. فبانقراض العقلانية الصارمة عادت الأديان مثلا لتلعب دورها في ربط علاقات المحبة بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وقد بين الفيلسوف الإيطالي فاتيمو في كتابه الأخير كيف عادت عظمة الله إلى سالف نصابها، وكيف ستلعب الروحانيات دوراً رئيساً في تحرير الإنسان من غطرسة سلطة الآلة.
التعقل إذن هو الذي سيربط العقل بالحرية وسيربط الحرية بالمسؤولية ويجعل المجتمع في حالة توازن. والتعقل لا يعني الاستكانة وقبول الأمر المقضي، بل يعني فسح المجال أمام العقل لكي يكون تآنساً ولا وسيلة انهيار للإنسان واضمحلاله، وتنظيماً للمجتمع يقوم على قاعدة معقولية المصالح الخاصة وتعقلية المصالح العامة حسب تعبير راولس.