النخب الدينية بين علم الاجتماع السياسي والديني(عبد الرحمن منظور الشعيري )
يعتبر موضوع النخبة الدينية من أهم محاور التقاطع المعرفي بين علمي الاجتماع السياسي والديني بالرغم من الاختلاف المنهجي في الدراسة والتحليل والتفسير بينهما على مستوى التعامل مع الظاهرة النخبوية كموضوع، فعلم الاجتماع السياسي يرصد موضوع النخبة الدينية كمحور للاشتغال العلمي من زاوية مساهمتها في الفعل السياسي أو عندما تتحول إلى جزء من النخبة السياسية[1] بسلوكها وموافقها، بينما تشكل النخبة الدينية أهم المجالات الدراسية والمنهجية في علم الاجتماع الديني، خاصة في محاولته لتفسير ماهيتها ومكوناتها ووظائفها وآليات ضبطها الديني والتنظيمي للمجتمع[2].
وبحسب أدبيات علم الاجتماع الديني، ترتبط نشأة النخبة الدينية في المجتمعات الإنسانية بمبدأ نشر الدين – أي دين – ودعوة الناس إلى الانضباط لعقائده والالتزام بطقوسه وشعائره وقيمه، وذلك باستعمال وسائل الاقناع المتعددة: الدعوية والتعليمية والتنظيمية والإغاثية، ومن خلال التكوين الديني للأتباع والأنصار، بغية ضمان استمرارية الدين وتأثيره في المجتمع، لتشكل معتقداته وممارساته وقيمه دليلا مرجعيا في جملة العوامل الاجتماعية والحضارية المؤسسة للبناء الاجتماعي (Social Structure)[3] .
ومن بين أهم وظائف النخبة الدينية بحسب علم الاجتماع الديني، نجد العمل على عقلنة النشاط الديني في المجتمع[4] وذلك من خلال الصياغة المنهجية للعقائد الإيمانية المحصنة للجماعة الدينية. والسهر على تنظيم “الطقوس” وضمان تجدد مواعيدها، ودوام ممارستها، ومن ثم يقوم رجال الدين كما هو الاصطلاح في التجربة المسيحية (أي القساوسة أو الكهان) أو الحاخامات في الدين اليهودي، أو من يقوم مقامهم في الأديان الأخرى، على إنتاج المعرفة الدينية لتسهيل إدراك “المقدس” لدى عموم المؤمنين بواسطة آليات التأويل (الهرمونطيقا) والتفسير، وبمقتضى هذه الوظائف اللاهوتية مازالت النخبة الدينية تحظى بالمكانة المتميزة في المجتمعات الإنسانية حتى اللائكية منها، خاصة على صعيد التوجيه الروحي والعقدي. [5]
أما في السياق الحضاري العربي والإسلامي، فلا يمكن منهجيا ومعرفيا وسم النخبة الدينية بصفة رجال الدين، فالنصوص التأسيسية الإسلامية القرآنية والحديثية أناطت بكل فرد راشد في المجتمع الإسلامي أن يكون ذا إلمام بالمعلوم من الدين بالضرورة، وأن يكون قادرا على فهم أحكام الشريعة المتعلقة بأساسيات الحلال والحرام في مساره الفردي والجماعي، كما يُكلف المسلم في النظام الاجتماعي الإسلامي بحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، وضبط قواعده الأساسية ليحوز على أهلية إمامة المسلمين في الصلاة، لذا لا يمكن الحديث في السياق الإسلامي عن طبقة رجال الدين المكلفين حصريا بتنظيم شعائر الإسلام أو ادعاء تمثيلهم الروحي أو الحديث باسمهم دينيا بشكل إلزامي ووصائي، كما هو الحال في النظام الكنسي بالتجربة المسيحية.
ففي النظام الاجتماعي الإسلامي يقصد بالنخبة الدينية “تلك الفئات من المجتمع التي تمارس -كل في نطاق تخصصه-وظيفة دينية أو أكثر، سواء كانت تعليمية وتفسيرية لنصوص الوحي، أو روحية سلوكية ترتبط بالتخليق والتزكية، أو تمارس النشاط الديني ارتباطا بالنسب النبوي كالشرفاء، أو تستند في ممارستها للسلطة السياسية أو العمل السياسي بشكل عام على الدين. كما تشمل من يتولى اجتراح المعرفة الدينية وتعلمها، ومن ثَم فالنخبة الدينية الإسلامية يندرج في سلكها كل من يمارس الفعل الديني على تعدد أوجهه الثقافي والدعوي والسياسي للتأثير في المجتمع أوالدولة أو هما معا”.
وتتألف النخبة الدينية في التجربة العربية والإسلامية بصفة عامة، من ذوي الخبرة التربوية والروحية من شيوخ الزوايا والصلحاء في المدرسة الصوفية، ومن العلماء والفقهاء المهتمين أساسا بشرح نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، كما تضم المؤسسات الدينية الرسمية وقادة الجماعات الإسلامية بمختلف أطيافها الدعوية والحركية، وكذا المثقفين الدينيين المعاصرين المهتمين بقضايا الفكر الإسلامي وطلبة العلوم الإسلامية.
وتتبوأ النخبة الدينية الإسلامية على اختلاف وظائفها وأنشطتها مكانة متميزة ومركزية في الوجدان العام للمجتمعات العربية والمسلمة، ويزداد منسوب تأثيرها الرمزي والسياسي في الحقلين الديني والسياسي بقدر ما تتوفر عليه من استقلالية عن السلط الحاكمة، وبمعانقتها للقضايا الكبرى للشعوب المتمثلة في الوحدة والتنمية والديمقراطية، وبمدى تمثلها للكاريزما الأخلاقية والتقوى والكفاءة العلمية الداعية للاجتهاد في التنزيل المقاصدي لتعاليم الإسلام على المستجدات والمتغيرات المعاصرة.
وبمقتضى منزلتها الاستراتيجية هاته في المجتمع المسلم، تصبح النخبة الدينية بحسب السوسيولوجي التونسي عبد اللطيف الهرماسي بمثابة السلطة المخولة اجتماعيا للسهر على إقامة شعائر الدين وتعليمه، ومكلفة كذلك بمقتضى حيازتها للقيادة الدينية في المجتمع بجملة من الوظائف تتجسد فيما يلي:
- الوظيفة الروحية والعبادية من خلال ترسيخ الإيمان وتعاليم الدين، والسهر على القيام بفرائضه واجتناب نواهيه.
- وظيفة التعليم والإرشاد والإنتاج في مختلف مجالات المعرفة الدينية.
- الوظيفة التشريعية المتمثلة في الاجتهاد وفي استنباط الأحكام التي يحتاجها المجتمع وأفراده في حقل العبادات والمعاملات.
- وظيفة الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الأخلاق العامة.
- وظيفة نصح الحكام وتقديم المشورة.[6]
ويختلف تأثير النخبة الدينية في التجربة الإسلامية والعربية ومركزها القانوني والسياسي باختلاف الأنظمة السياسية وعلاقتها بالمشروعية الدينية. إذ نجد لها حضورا كبيرا في هرمية الدولة وفي صوغ القرار السياسي في التجربة السياسية للنظامين الإيراني والسعودي، أو تشهد تغيرا جذريا في مركزها السياسي والمجتمعي بفعل تأثير ثورات الربيع العربي، كما هو الحال في مصر وتونس وليبيا واليمن. أو تعرف تحولات سوسيوسياسية وقانونية في علاقتها بالدولة والمجتمع كما هو حال النخبة الدينية المغربية.
[1] – إبراهيم أبراش، علم الاجتماع السياسي، مرجع سبق ذكره. ص 147.
[2] – ففي هذا الصدد تعمل النخبة الدينية في جميع المجتمعات الإنسانية على ممارسة نوع من الرقابة الاجتماعية التي من خلالها تضمن الحد المقبول من الانضباط الجماعي ومقومات العيش الديني المشترك، انظر، عبد الباقي الهرماسي، علم الاجتماع الديني، والمجال – المكاسب- التساؤلات. ضمن الكتاب الجماعي، الدين في المجتمع العربي مرجع سبق ذكره ص 17.
[3] – Max Weber, Economie et Société, op.cit.p 473
[4] – إحسان محمد الحسن، علم الاجتماع الديني، دراسة تحليلية حول العلاقة المتفاعلة بين المؤسسة الدينية والمجتمع. دار وائل للنشر. الطبعة الأولى 2005 ص 30.
[5] – رغم هيمنة الفكر اللائيكي بمختلف تجلياته الفلسفية والسياسية والسلوكية في المجتمعات الغربية الحديثة، فإننا نلحظ أن للكنائس ورجال الدين فيها وظائف مهمة في التوجيه الروحي والنفسي للأفراد والمؤسسات. ونستحضر في هذا السياق الدور التوجيهي الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان بقيادة “البابا بنديكيت السادس عشر” في معارضة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وذلك بحجة دينية تقوم على اعتبار الاتحاد الاوربي نادي للدول المسيحية.
وردَ هذا التوجيه في خطاب البابا يوم 20 أبريل 2005 في كنيسة سيستين ، انظر نص الخطاب في الموقع الرسمي لكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان في نسخته العربية: Vatican. va.www
[6] – عبد اللطيف الهرماسي، المؤسسة الدينية في الإسلام موضوعا للدراسة، بين التمركز على الذات وأسر النموذج الغربي. مجلة التسامح، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بسلطنة عمان. العدد 17 شتاء 1423هـ / 2007 م . ص 123.