في إشكالية تطور الدولة في المغرب: (محمد شقير)_9_
ب – الوظيفة السياسية للمخزن
تتمثل هذه الوظيفة في اقتطاع الضرائب و استخدام العنف، فهناك ترابط بين العمليتين بحكم أن المخزن قد قام بالأساس على الفتح. و بالتالي فـهـو يعامل بلاد المخزن كبلاد فتحت عنوة . والضرائب التي تدفها القبائل تعتبر بمثابة جزية أو ضريبة حرب . (3)
ولعل هذا المنطق هو الذي جعل المخزن يميز بين رعاياه الخاضعين للضرائب . فهناك إعفاءات ضريبية تتمتع بها بعض الشرائح ( كالأشراف و قبائل الكيش و الارستـقـراطـيـة الـمـخـزنية و التجار …)، بينما ينوء فلاحوا قبائل النائبة من ثقل الضرائب وعبئها . (4)
وهذا التمييز الضريـبـي هـو الـذي يـجـعـل الـعديد من القبائل ترفض دفع الضرائب لتدخل في عداد بلاد السيبة؛ الشيء الذي يحرك بالتالي الأداة القمعية للمخزن . فالمخزن يتكون من جهازين رئيسيين :
– جهاز إداري يتكلف بجمع الضرائب (شيوخ،قواد،أمناء)
– جهاز قمعي يتكون من الجيش
فـهـناك تـلازم بين الجهازين، بحيث أن المخزن لا يمكن ان يتوفر على قوة عسكرية إلا بضمان وسائل تمويلها(1) ؛ هذا التمويل الذي لا يتأتى إلا من جمع الضرائب .
ج – الأزمة البنيوية للمخزن
ترجع هذه الأزمة إلى العوامل التالية :
أولا : الـتناقض بين جوهر السلطة و إمكانيات الدولة
فـالسـلـطـة السـياسية، في منظور بن علي، تتميز بأنها سلطة مـطـلـقـة و أوتوقراطية من ناحية الأسس الـفـكـرية و السياسية التي تـقـوم عـلـيـها ، لـكـنـها سـلـطـة محدودة من ناحية إمكانياتها ، مما يؤدي إلى حدوث تناقض بين مبدأ السلطة و حدود إمكانياتها . ويفسر بن علي هذا التناقض كما يلي :
” من ناحية المبدأ تـتميز الـسلطة بأنـها سلطـة مطـلقة لكنها لاتتوفر إلا على إمكانيات محدودة .فالطابع المـطلق للـسـلـطة مـرتـبـط أسـاسا بالـشـروط الخاصة باستمرارية هذه السلطة. وهكذا، فبمجرد الانتهاء من الاسـتيلاء على الـحكـم ، يـتـم اللجوء إلى القوة كوسيلة للاستمرار . و بالتالي فالحكم يعتبر في نظر الـحـاكـم مـلـكـية خاصة يحرص على ممارسته بدون شريك. أما المبدأ الثاني الذي يستند عليه الحكم فهو الأوتـوقـراطــية ؛ بحيث يعتبر الحكم حـقـا إلهيا . لـكـن الحكم الذي لا يعرف حدودا في مبادئه يـعـرف مـع ذلـك حـدودا فـي إمـكانياته. وحدود هذه الامكانيات ترجع بالأساس إلى طبيعة التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية : فالاقـتـصاد الزراعي يعجز عن توفير الوسائل التي تمكن الدولة من ممارسة هيمنتها، إضافة إلى استمرار البنيات القبلية . (2) “
ثانيا : الصراع بين السلطة المخزنية و السلطة القبلية
يرى بن على أن هناك تناقضا بين البنية القبلية و البنية المخزنية، و الذي يرجع إلى التعارض بين الفكر المحلي و مركزية الدولة. وقد أدى هذا التـناقـض إلى عـدم الـتطابق بـين الاحـتياجات التي تتطلبها دولة مركزية و قوية و بين الامـكـانيات التي توفرها القوى المنتجة. هذه الامكانيات التي يتـم التـصارع علـيها بـين الـمجتمع المخزني و المجتمع القبلي . (1)
غير أن عدم الحسم في هذا الصراع، جعل كل من المخزن و القبائل يعملان على تأمين مجال نفوذهما. وتقوي كل مجال على حساب آخر يكون رهينا بميزان القوى و بأهمية إمكانيات المخزن . (2)
ثالثا : بلاد السيبة – بلاد المخزن
إن حدود إمكانيات المخزن و عجزه عن مـد نفوذه إلى كامل التراب الوطـني يؤدي إلى وجود مايسمى ببلاد المخزن و بلاد الـسـيـبة(3). فرغم المحاولات التي قام بها المخزن في مراحل تقوي سلطته ،سواء في عهد المنصور السعدي، المولى إسماعيل، سيدي محمد بن عبد الله ، و المولى الحسن الأول، فإنه لم يستطع القضاء على النمط السائد لأغلبية السكان القرويين. وكانت النتيجة أن القبائل ، وخاصة سكان الجبال، لم يكونوا يؤدون الضرائب للسلطة المخزنية أو يستقبلون موظفي المخزن . و حتى عندما يحاول المخزن التدخل في مجالهم ، فهم يقاومونه للحد من توسعه . (4)
وعموما، فإن مختلف هذه العوامل جعلت المخزن يعاني من أزمة بنيوية استمرت إلى عهد الحماية (5). إذ بدخول الاستعمار إلى المغرب تمكنت السلطة المركزية من توحيد البلاد سياسيا و إداريا .
وفي هذا يقول إدريس بن علي :” لقد نجحت الدولة الاسـتـعمارية حيث فـشـل المخزن أي باستيعاب ماسمـي ببـلاد السـيـبة من طرف بـلاد الـمـخـزن . وبتـحويلـه المركز إلى منظم رئيسي للمجتمع حقق الاستعمار تغييرا ذا نتائج يـوازي امـتدادها حلل الدولة -الوطن في أوربا . ونـظـرا لـقوته التكنولوجية و العسكرية ووسائله للـمـواصلات و الاعـلام و إدارتـه ، تـمـكـن الاسـتـعـمـار مـن جـعــل الـدولـة مـركـزا لـكـافـة الـســلـط و نـجـح حـتى فـي تـحـقـيـق إدماج وطني . مـنذ ذلك الوقت نجد الدولة في كل مكان، إذ اكتسحت المجال الاجتماعي و حاولـت مراقـبـة عـمـلـيـة إنـتـاج المجتمع. فـقـد أعـطـت الـدولـة الاستعمارية للهيمنة الايـديـولوجية و المشروعية التـقـلـيـديـة، الوسائل التكنولوجية و الادارية الضرورية للدعم المؤسساتي للمخزن. “(1)
و عـمـومـا ، فـقـد تـجـلـت مـزيـة هـذا الـطـرح في المحاولة المتكررة للتأكيد على خصوصية الدولة بالمغرب سواء عـلى مـسـتـوى بـنـيـتـه الـتحتية(2) أو علىمستوى بنيته الفوقية . لكن هذا لم يمنع من تبني الباحث لمـقـولات ماركسية ترتبت عنها عدة استنتاجات أثرت في تحليلاته . (3)
فتبني مفهوم نمط الانتاج الفيودالي و تطبيقه على حالة المغرب (ماقبل المرحـلة الرأسمالية) هو إبقار لكل خصوصية تاريخية للدولة بالمغرب؛ إذ أن هـذه الأخـيـرة لم تكن لديها نفس العلاقات التي كانت تربط مثلا الملكية الأوربية بفيوداليـيها . و قــد انـتـبـه بـلـمليح إلى هذا المعطى فأشار إلى أن الحكم السلطاني يختلف في علاقاته مـع القوى الجهوية المغربية مقارنة بالعلاقات التي كانت بين الملكية الأوربية ونبلائها . كما أن و وضـعـية الأرض فـي أوربا الاقطاعية تخـتـلـف عـن الـوضـعـيـة الـتي كانـت لها فـي الـمـغـرب ماقبل الاستعمار ؛ إذ تختلف العلاقة التي كانت تربط بين الإقطاعي و القن عن العلاقة التي كانت بين القائد و الفلاح . (1)
ورغم محاولة الباحث تحليل الصراع الذي كان دائرا بين السلطة المركزية و القبائل ، وخاصة قبائل السيبة، فقد كان غالبا ما يقع في التشبيه (analogie) بين الدولة الاقطاعية في اوربا و الدولة المخزنية بالمغرب سواء تـعلق الأمر بميكانيزمات السلطة أو أزمة الدولة :
– ففيما يخص مــيـكانـيـزمات السلطة يعمد الباحث إلى التأكيد على أن ” الدولة، ماقبل الاستعمار ـ على غرار دول أوربـية في الـقـرون الوسـطى ، كانـت السـلـطــة فيها تستمد من التحكم في الأشخاص و ليس من التحكم في الأرض ؛ وأن الانتماء إلى جهاز الدولة يرتبط بأهمية العلاقات الزبونية و الشبكية العلائقية التي يتوفر عليها كل شخص . “
– أما فـيـما يخص أزمة الدولة، فإن الباحث يقرن بين الضعف البنيوي التي كانت تعاني منه الدولة الإقطاعية في أوربا و الدولة المخزنية في المغرب ، الشيء الذي حدا بالأسر الحاكمة إلى اللعب على تأجيج الخلافات الهامشية و التناقضات الثانوية بين (الأمراء/القواد) و ذلك لضمان استقرار الحكم . (1)
بالاضافـة إلى ذلك، فـمن حق المـرء أن يـتـساءل عن طبـيعة الأنماط الاقتصادية التي كان يعرفها المغرب قبل تبلور نمط الانتاج الفيودالي و مدى تأثيرها في طبـيعة الدولة المـغـربية و تطوراتها . فالمغرب، حسب رأي الباحث، كان يـتـوفـر على طبـيـعـة مـلائـمـة، لا تـوجـد فـي باقـي الـدول الـمـغاربـيـة ، سهـلت إمكانية بروز دولة اعتمدت بالأساس على السهول الأطلسية و ذلك منذ ظهور دولة البرغواطيين حتى قيام العلويين . (2)
فهذا التساؤل سيسلط الضوء على عمليات التعامل التي كانت للمغرب مع منظومته المتوسطية سواء عن طريق التبادل التجاري أو عن طريق الغزو أو الغزو المضاد. ورغم اختلاف التسميات التي يمكن أن نطلقها على هذا النوع من الانتاج (نمط الإنتاج الضرائبي حسب تـعـبـيـر سـمير أمين أو اقتصاد الغزو حسب تعبير الجابري)؛ فلاشك أن هذا النمط قد ساهم كثيرا في تقوية الدولة بالمغرب و أثر بشكل كبير على تطورها .
وإذا سلمنا بوجود هذا النوع من نمط الانتاج أو أنماط أخرى ؛ فلا بد من التساؤل عن الكيفية التي تم بها الانتقال من هذا النمط إلى نمط الانتاج الفيودالي الذي عرفه المغرب بعد انهيار الحكم المريني . إذ لاننسى أن هذا الانهيار كان مرتبطا بالتحولات التي عرفتها المبادلات التجارية العالمية و انتقالها من المنطقة المتوسطية إلى المنطقة الأطلسية مع ماصاحب ذلك من انعكاسات على الدولة بالمغرب .
كـما سـجـل تـاريـخـيا ، بـأن الـمـخـزن، محاولة منه لتحقيق استقلاليته ، كان غالبا ما يعقد اتفاقيات تجارية مع أوربا سـعـيا مـنـه لـلـحصول على موارد مالية . ولعل هذا مايفسر سياسة سيدي محمد بن عبد الله في الاهتمام بالموانىء الأطلسية او عقد اتفاقيات تجارية مع كل من فرنسا و هولندا او انجلترا.
لذا، فمن الصعب جدا الربط بين وجود نمط إنتاج سائد و بروز الدولة المخزنية، وربط وظيفة هذه الدولة باستجلاب الضرائب و استخدام العنف. إذ ليس من الضروري أن يمر المغرب بنمط الانتاج الفيودالي لكي يواجه نمط الانتاج الرأسمالي و يعاني من الغزو الاستعماري . فالاستعمار الرأسمالي لم يكن يميز بين أنماط إنتاج الدول المستعمرة لكي يقوم باستعمارها ؟؟