المقالات

طوفان الأقصى….الفرصة والدرس(مبارك الموسوي)

1.تقديم

مما لاشك فيه أن هذا الحدث التاريخي سيسيل مدادا كثيرة غدا كما أسال دماء كثيرة اليوم؛ دماء ليست إلا الحجة البالغة على معاصيرها وعلى كل الأجيال القادمة؛ على رأسها النخبة بكل أصنافها ومستوياتها.

ربما تُحجب العقول عن جوهر دلالاته التاريخية من خلال العواطف الجياشة التي تحدثها أهوال البطش بمستضعفين لا يملكون إلا إراداتهم في الحرية والتحرر، وربما تُحجب بعامل التخلف الذي يضرب نظام التفكير السائد في لحظة زمنية غزيرة الأحداث الجسام كما هي غزيرة وسائل الاتصال والتواصل وسريعة توالي تلك الأحداث، لكن لعوامل التحول التاريخي القدرة الكاملة على الاستيعاب ولو لم تستطع تلك العقول إدراكه لحظة الضغط الشديد.

فهل حدث الطوفان فرصة تاريخية، وما هو الدرس الأكبر الذي يجب تعلمه؟

2.فرصة الطوفان

خلاصة طوفان الأقصى أنه أعاد لحركة الوجود البشري، في ظاهرها كما هي في باطنها، أن القدس وفلسطين جوهر التدافع الإنساني، ومن ثمة فهي جوهر الفعل السياسي والتاريخي على السواء، لذلك، وبعد عقود من الزمن سادها التيه السياسي الذي عم حركة الأمة، كان هذا الحدث الفرصة الكبرى لإعادة توجيه بوصلة الفعل والحركة، أي أن اتجاهها هو القدس وفلسطين، وأن دونها تيه في شبكة متاهات لعبة الاستكبار المعقدة والمظلمة.

ومعنى هذه الفرصة أن يعاد طرح السؤال حول ماهية الفعل السياسي لدى حركات التغيير والإصلاح بعد حوالي عقد من الزمن رُفع فيها شعار: فلسطين قضيتنا المركزية، وكيف يكون هذا الفعل السياسي ذي قيمة تاريخية حتى لا تسقط حركة الأمة في قاع ضياع الوقت والجهد بعامل اضطراب البوصلة؟

نعم، لا تسمح ظروف اللحظة بالانعزال حتى توفير الجواب الكافي والشافي، كما لا تسمح شروط اللعبة بمغادرة حلبتها لاستجماع القوى واسترداد الهدوء، لذلك كان لزاما توفير الجواب المناسب في خضم الانغراس الكامل في معمعان الأحداث ولهيبها.

إنها لحظة محيرة، نعم، وحاسمة في نفس الوقت، لذلك تحتاج إلى أنموذج قيادي له القدرة على توفير شرط الهدوء خلال سير غاية في الاضطراب والارتباك دون توقف ودون الخروج عن الطريق لتعقد حافاته.

هنا لابد من التمييزـ فيما مر من الزمن بعد قيام طوفان الأقصى، بين أربعة مراحل:

الأولى: قيام طوفان الأقصى، وهو حدث لم تكتمل كامل معطياته لتحليله تفصيليا، لكن المجمل يؤكد القول: إنه كان حدثا مفصليا في تاريخ القضية.

الثانية: رد فعل الكيان الصهيوني واشتعال المقاومة في غزة وجبهات الإسناد، وقد كان ذلك مؤشرا على أن التحالف الاستكباري من خلال البطش الصهيوني لن يحسم المعادلة سريعا وإن كانت التضحيات جساما.

الثالثة: اجتياح رفح، حيث عمق تخلف وضعف وشلل دول المحيط والطوق، وكشف عن تجدر المقاومة في هذه الرقعة الجغرافية، وهو ما أشر على حقيقة الصراع وكشف عن أبعاده الحقيقية التي تغطي المنطقة والعالم، الأمر الذي بين قيمة الإسناد رغم أن جبهاته تفاجأت بحجم أثار حدث الطوفان محليا وإقليميا ودوليا.

الرابعة: الحرب على لبنان التي بدأت ذروتها باغتيال عدد مهم من قاداتها، على رأسهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وقادة عسكريين هامين، وهي ما تزال متصاعدة حيث اخترقتها ردود إيران عبر رد مؤثر عسكريا وسياسيا لاشك مازال الكيان يخطط لردع آثاره.

هذا التمييز بين المراحل مهم جدا لكونه سيساهم بقوة الوضوح في تقييم الأحداث وكشف انتظام تواليها وعلاقة كل ذلك بحالة العجز، بل التخلف، الذي تضرب جسم الأمة، في حين يكشف عن تناسق وتسابق قوى الاستكبار للقيام بمهامها في ضرب جوهر وجود الأمة اليوم، وهو موقع قضية فلسطين والقدس من خلال تفتيت علاقة كل مكوناتها (الأمة) مع هذه القضية المصيرية والوجودية بالنسبة إليها، إذ هذا التفتيت يعني شيئا واحدا: الهيمنة المطلقة على المنطقة وخيراتها وتحييد دور الأمة ورسالتها بين الأمم، وهو مايعني الهيمنة المطلقة للاستكبار: الصليبي الصهيوني الاستعماري التوسعي على العالم، وهو المفهوم من ترويج الخرائط حسب المزاج الصهيوني لتأكيد أمان وأمن الاستكبار من خلال إنجاز ذلك على أرض الواقع، وهو نفس المعنى الذي تروج له المؤسسات الموالية للاستكبار إعلاميا واقتصاديا وماليا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
إن هذه الفرصة، التي ليست إلا قدرا إلهيا مقدورا، تعيد طرح السؤال المصري على النخبة وعموم الأمة على السواء: سؤال القيادة والنظام لجمع قوى الأمة لتقوم بدورها التاريخي الإنساني في الحاضر والمستقبل، لذلك فهذه اللحظة تحمل بدايات الانتقال من مراحل سيادة ثنائية احتلال أو استعمار/مقاومة إلى مراحل التحول التاريخي، وهو ما يدلل على الثمن الباهظ في بنية القيادة وبنية التنظيم بشريا وإنسانيا في صفوف محور المقاومة.

3.درس الطوفان.

نعم، لهذا الحدث الكبير دروسا فرعية كثيرة، تكتيكية واستراتيجية، وهي ليست المعنية هنا في هذا المقال، إذ هي تخصصات متعددة، لكن المعني هو الدرس المصيري، حيث لابد من التمييز بين التفكير الاستراتيجي والتفكير المصيري في القضايا الوجودية التي لايمكن التعامل معها فقط على مستوى الأفق المحدود مكانا وزمانا، ذلك أن قضايا التفكير المصيري وجودية وترتبط بعمق الماضي وتجاربه وامتدادها في الحاضر والمستقبل.

الحاضر من حيث هو فترة زمنية معينة بالنسبة للأمة ليس إلى نتائج تحالف بين تبعات الانكسار التاريخي، وهي عميقة وممتدة وكانت نتيجة تحول تاريخي قاده انقلاب بني أمية على الحكم إلى اليوم، وبين تبعات الاستعمار الغربي بما هو مقدمة لتحول تاريخي استثمر ذروة الضعف الناتج عن الانكسار.

لقد عرف جسم الأمة ضعفا شديد ومضاعفا بعد التجزئة التي أنتجها الاستعمار الغربي، وفي نفس الوقت عرف صراعا مركبا ومعقدا بين تقليد شامل أنتجه الانكسار وبين حداثة شاملة فرضها الاستعمار وبين نتائج هذا الصراع الذي شمل كل مناحي الحياة من جهة وبين إرادة التحرر والحرية من جهة ثانية.

هنا ارتبكت الإرادة على وضوح مقصدها وهو الحرية الشاملة، أو سميها الحرية التاريخية، واحتار العقل على وضوح مقصده وهو التحرر، لذلك لا يمكن فهم طبيعة الصراع القائم دون فهم هذا المعطى التاريخي الوجودي، إذ لا يمكن فهم القيمة التاريخية للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مصيرية ما لم نفهم المعنى الوجودي والمصيري لقيام الكيان الصهيوني من حيث هو امتداد شامل للاستعمار الغربي في جسم الأمة.

هنا يجب التمييز بين حضور القضية في الخطاب السياسي والفعل السياسي لدى محور المقاومة وبين حضور ذلك في خطاب حركات التضامن وإن كانت حركات ذات حضور سياسي مهم في أوطانها.

هذا التمييز مهم جدا لكونه يميز بين الحركات والمجتمعات التي تخوض المعركة مباشرة من خلال موقع الدولة أو من خلال التحالف معها لضرورة واقعية، وبين الحركات والمجتمعات التي تشتغل من هامش التضامن.

ومقتضى هذا التمييز أنه يجيب عن سؤال تخلف حركات التغيير والإصلاح عن اللحظة التاريخية، حيث لم تستطع أن تخرج من مستوى التضامن إلى مستوى الانخراط في المعركة لصالح التحول التاريخي المطلوب من خلال ما سنحت به فرصة الطوفان.

هو تخلف ناتج عن العجز الذي كشفته يوميات وتبعات ما سمي بالربيع العربي، الذي أضعف موقع القضية الفلسطينية في حركة الأمة، كما أدى إلى انخراط قوى المقاومة في معارك هامشية مفروضة؛ كموقف حماس مع النظام السوري وموقف حزب الله من الثورة السورية لما صارت أهم محاورها في يد التفكير الوهابي فصارت خطرا محدقا بالتحالف المصيري بين إيران وحزب الله وبين النظام السوري.

نعم، هذه لحظة لم تخضع بعد لتقييم شامل ودقيق ، وما زالت محكومة بالانطباعات، لكن ساهمت نتائجها الميدانية في فرض حضور واقعي لقوى أجنبية على الأرض السورية من جهة، وساعدت على أن يكون طوفان الأقصى عامل إعادة القضية إلى مكانها الطبيعي وبين يدي رجالها الطبيعيين؛ ومنه عدم السماح لقوى أجنبية بترسيخ ذلك الحضور استراتيجيا على مقربة من حدود فلسطين المحتلة.

الشاهد عندنا في هذا المقال هو أن عنوان الوجود مصيريا لكل الأطراف هو مآل القضية الفلسطينية في الصراع القائم.

هنا يجب أن ننظر من أعالي التاريخ، كما يجب أن ننظر من خلال المستقبل لواقع غاية في التعقيد تلفه صراعات شاملة ومتعددة في كل مستويات البناء المجتمعي والسياسي محليا وإقليميا ودوليا، إذ من خلال هذا النظر فقط يمكن أن نستخرج الدروس بالمعنى المصيري لا بالمعنى الاستراتيجي والتكتيكي فقط.

في ذكرى طوفان الأقصى الأولى نستطيع أن نحدد عناوين هذه الدروس بناء على ماسبق:
*الدرس الأول: أن أفق وحدة الأمة صار حاضرا بقوة في ميادين الصراع، إذ كلما عمقنا حضوره قوضنا الطائفية والمذهبية والقومية، وكلما تعمق هذا التقويض ارتفع منسوب القوة في جسم الأمة، لذلك سنلاحظ أن الاستكبار يراهن على هذا الثلاثي في التفريق والفتن والصراعات الداخلية.

نعم، هذا يحتاج إلى “ثورة علمية في السياق الإسلامي” تغير جذريا نظام التفكير ليس هذا موضع مناقشتها، إذ لا بد من تخصيص حيز خاص بها.

*الدرس الثاني: أن حركات التغيير والإصلاح لن تخرج من صندوق مجرد التضامن وتنخرط في مراحل التحول التاريخي ما لم تغير في موقع القضية الفلسطينية والقدس في بنية خطابها السياسي والثقافي التربوي والتعليمي، وهذا يقتضي مغادرتها مجرد مواقع الفعل السياسي محدود الأفق، زمانا ومكانا، إلى بناء استراتيجيات الفعل التاريخي الذي هو وحده من يحدد مضمون الفعل السياسي ويدقق في ماهية مواقفه المرحلية، وذلك بجعل القضية محددا ومعيارا في كل الأداء السياسي للتحرر من الانفصال بين الفعل السياسي المحلي وبين فعل التضامن، وذلك لتمد معاني وآثار الفعل إلى ذلك الأفق الجامع للقوة ضمن صراع فرضه الاستكبار بجعله موقع القضية محوريا في فعله اليومي والاستراتيجي، مما جعله مؤثرا في كل علاقاته ومواقفه وأفعاله وبناء قوته الداخلية والخارجية، وهو ما كشفت عنه بوضوح لحظة طوفان الأقصى لما جعلت الكل الغربي يتداعى لصالح الكيان الغاصب.

ومقتضى هذا، أنه يجب أن تكون القضية قضية دولة ومجتمع تحتل أولوية وطنية لا تتخلف عن القضايا الوطنية الخاصة، نظرا لارتباط هذه الأخيرة بالأولى ارتباطا مصيريا شئنا أم أبينا.
*الدرس الثالث: لقد بينت تبعات الطوفان أن هناك أولوية حاسمة في مسار الأمة، وهي بناء الأوطان قوة سياسية واقتصادية ومجتمعية تستطيع أن تقوم بأدوارها ومهامها الإنسانية والدولية كما يجب في الوقت المناسب.

لقد استطاع الاستكبار أن يفرض نمطا من التنمية وفق مفاهيمه ونظرياته ومصالحه جعل الكيان الغاصب قطبه وموزعه، وهو ما يعني أن استراتيجيات أولوية بناء الأوطان تطلب تنمية تحرر وتعليما يحرر، أي واقعا سياسيا ومجتمعيا قويا يدير خلافاته الداخلية واختياراته المرجعية على معنى قوة الوطن التي تضمن تحرره وخدمته للأمة في مسار قوتها ووحدتها بما لا ينفك ولا ينفصل عن محورية القضية الفلسطينية حياته اليومية.

لدى سبقنا الغرب لهذا، فشكل ظهرا سميكا للكيان الغاصب، لكن بإمكاننا، ووفق الإمكانات المتاحة في يد الأمة، أن نقوم بذلك ليس فقط في إطار المصالح، بل في إطار أمة قوية وجامعة لكل أطراف أبنائها لتقوم برسالتها، ودون ذلك عمل كبير وتاريخي.

*الدرس الرابع: هذا العمل الكبير والتاريخي يحتاج إلى تحول جذري في محورين هما:
الأول: تجاوز انموذج القيادة التي كشفت يوميات وتبعات ما سمي بالربيع العربي عن تخلفها عن اللحظة والمرحلة، وهو تجاوز لا يعني تبخيسها حقهاـ لكن يجب أن يرتفع مستوى الوعي بهذه القضية إلى اليقين بأن هذا النموذج لم يعد مناسبا لمواقع القيادة واتخاذ القرار فقط لأنه نموذج اختار إلى ماهية استغرقت حوالي قرن من الزمن انتهى بها الأمر إلى عجز هائل، رغم التضحيات الجسام، الفشل في تصحيح علاقة الدولة بالمجتمع، وهو أمر حاسم في بناء العامل الذاتي، ومن ثمة الفشل في بناء المؤسسات التي تحتضن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطينة ذات أولوية وعلى ضوئها تعالج القضايا في العلاقات الدولية.

الثاني: إن التغيير الجذري في مفهوم القيادة وأنموذجها ليس إلا ثمرة كبرى لحركة القوة المجتمعية لأجل التحرر والحرية، لذلك لابد من تجديد في الوعي التنظيمي بما يسمح بإعادة بنية تنظيم المجتمع والنظام حتى يحصل الانسجام الضروري في حركات مؤسسات كل المجتمعات ودولها وفق بوصلة القضية الفلسطينية، إذ من الواضح أن هذا مصدر قوة هائل تأتي باقي الوسائل بعده في موقعها الضروري.

لقد كشفت حروب اليوم أننا نحتاج إلى تغيير كبير في إدارة الصراعات من خلال إعادة بناء مواقع التدافع ومجالاته وأدواته، حيث تبين أن الضمانة في البقاء هي الوطن القوي الذي يتحقق فيه الانسجام بين المجتمع والنظام السياسي والدولة، ولاشك أنها معركة حاسمة في مواجهة امتدادات تبعات الانكسار التاريخي والاستعمار الغربي، إذ على أرضية الإسلام فقد يمكن مواجهة الثقافة الصهيونية، وعلى هذه الأرض المتجددة فقط يمكن إنجاز مراحل التحول التاريخي، وهو درس عظيم من خلال تتبع مسار المقاومة في القضية الفلسطينية.

3.خلاصة

طوفان الأقصى ليس مجرد فعل مقاوم، وإنما عمل تاريخي ما بعده ليس كما قبله، وقد أسس لطريق طويل وشاق في إعادة بناء جسم الأمة، إذ كشف أن إرادة التغيير والإصلاح في بلاد المسلمين لا يمكن فصلها عن مسار القضية الفلسطينية باعتبارها بوصلة الفعل والحركة، لذلك فهو (طوفان الأقصى) انطلاقة لتحول تاريخي مرتبط بشرطي القيادة والوعي التنظيمي الكفيلين بقيادة مراحل هذا التحول المراهن على وحدة القوة وقوة الوحدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق