المقالات

في نقاش القضايا الكبرى : نموذج مدونة الأسرة(مبارك الموساوي)

لاشك ان قضية الأسرة قضية كبرى بالاعتبار المصيري الذي تحمله، سواء بالنسبة لمصير الفرد او المجتمع او عموم الأمة والإنسانية، لذلك لا نستغرب إن كانت كل منظومات الإعلام والتربية والتعليم والسياسية، بمعناها الشامل، تدور حول هذه النواة التي تشكل كل المجتمع.
ومن معايير سلامة حركة المجتمعات وانظمتها والدول والأنظمة السياسية الراعية لها سلامة الأسرة من عيوب تفككها.
ان تفكك الأسرة ليس إلا نتيجة تصبح في مراحل تعمق ذلك التفكك هي مصدر قلق المجتمعات والدول، بل مصدر ضعفها وحتى تفككها، لذلك يكون من الأجدر مراجعة أوضاع هذه النواة الأساسية قبل أن تصاب بخلل يؤدي إلى مرضها العضال الذي يمس ألمه كل مفاصل الدولة والمجتمع تعجز معه منظومات التربية والتعليم ومحاضنها عن العجز في أداء مهامها المصيرية، بل تصير كذلك منظومات الامن مجرد مسكنات قد تؤدي ادوارا عكسية لما تنتقل من مهام التحصين إلى مهام القمع.
وعليه فالواجب هو دوريات واعية لمناقشة واقع الأسرة ومواقعها ووظائفها في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة.
ان نقاش القضايا الكبرى ليس نقاش مواقف وأحكام في صورتها المجردة، وإنما هو نقاش تصورات كبرى وفق انساقها المرجعية والفكرية. لذلك، فهو نقاش تدافعي او صراعي في جوهره في حالة تعدد التصورات والانساق المرجعية في المجتمع الواحد.
لنأخذ على سبيل المثال نقاش مدونة الأسرة في المغرب اليوم، فنجد ان هناك ثلاثة انساق وان اختلفت درجات حضورها وتأثيرها، علما بأن كل نسق يحمل في تفاصيله مسالك فكرية متعددة.
1.النسق الأول نسق التقليد، وهو ذي مرجعية إسلامية من خلال استناده إلى نصوص الوحي وإلى ترسانة من التراث الفقهي الزاخر والصادر عن عقلية فقهية فذة غطت قرونا من الزمن.ولاشك ان للدولة/النظام حظها الوافر من الامتداد في هذا العمق التقليدي، لكون الدولة المغربية صادرة منذ قرون عن هذا العمق.
2.النسق الثاني النسق الحداثي، وهو في كليته، مع تنوع مدارسه، يرجع إلى عمق التجربة الغربية.
ان النسق الحداثي في المغرب بنية فكرية تستمد روح معناها من شمول التجربة الغربية، وفي نفس الوقت من مواجهة التقليد، بمعناه السلبي، الذي يشكل ولا شك عامل تخلف شامل في حركة المجتمع والدولة على السواء.
لقد استطاعت خبرة النظام السياسي في المغرب ان تمزج في بنيتها الداخلية الحديثة بين روح التقليد وروح الحداثة بحيث مكنته هذه التجربة من صياغة نموذج راسخ في عمقه التاريخي والديني ونفتح على شمول التجربة الغربية دون التفريط  في ذلك العمق ووضوحه.
إن جل الصراعات الحادة في عمق المجتمع مردها إلى هذا الصراع الوهمي بين التقليد والحداثة، ولعل من أهم ما يفرزه نقاش القضايا الكبرى حجم هذه الصراعات التي تصبح من شدة توهمها حقيقة واقعية تمس كل مستويات الوجود الحركي والعلمي، الأمر الذي يعقد عمليات الإصلاح والتغيير، وقد يجرها في بعض الأحيان إلى صور من العنف المادي او الرمزي المؤثر على تماسك المجتمع الذي هو شرط في تماسك باقي مؤسساته.
ولاشك ان توازن بنية النظام السياسي في استلهام النسقين كان عاملا حاسما في كبح توهج ذلك الصراع. 
3.النسق الثالث هو النسق التجديدي.
ان التجديد بمعناه القرآني النبوي هو السياق الطبيعي لمناقشة القضايا الكبرى في المجتمعات المسلمة، إذ وحده القادر على نقد جذري للنسقين السالفين، لأنه يتاسس على فهم وحركة تمس مباشرة كل جوانب الحياة وفق نسقية بنائية متكاملة تعطي لكل ركن او عضو من المجتمع او الدولة او النظام السياسي حقه المناسب من التجديد للانتقال من مرحلة الى مرحلة وفق قواعد علمية وعملية شاملة وجامعة وتضفي حيوية جديدة في الحياة العامة والخاصة.
فنسق التجديد يواجه عوامل التقليد من خلال عملية غربلة للتراث بحيث ينتقل منه المناسب للمراحل القادمة ويركن الباقي في خزانة الأمة بما يقدمه لإعادة الاستفادة مع عمليات التجديد اللاحقة، كما أنه يواجه النسق الحداثي بصرامة لجعله موضوع استفادة لا اداة تجديد، لأنه لا يمكن أن يكون اداة للتجديد وهو ليس ابن البيئية.
وهناك فرق بين الاستفادة من خلال النسق المرجعي الأصلي، التي قد تكون قليلة، وبين التبني، الذي  ينقل موضوع الاستفادة إلى موقع الأصل المرجعي.
إننا نؤدي ثمنا باهظا لهذا الخلط في حياتنا اليومية، المجتمعية والسياسية، وفي حياتنا المصيرية، لذلك فوهم الصراع بين التقليد والحداثة أدى إلى توهم الحل، حيث يعتقد البعض انه من داخل الحداثة والبعض الآخر من داخل التقليد، وتوهم آخرون انه يوجد في عملية تلفيق بين هذين النسقين.
فلايمكن فهم جوهر كثير من صور التدافع والصراع في مجتمعاتنا إلا من خلال ادراك الحقيقة التالية:
وهي أن التقليد كاصل مجتمعي يقوام الحداثة حتى لا تصبح هي الأصل المجتمعي، وهو مظهر النقاشات وبعض صور الصراع والتدافع الكامنة في حركة المجتمع وفي منظومات الفكر والتربية والتعليم والسياسة وغيرها.
فخلاصة ما نروم تبليغه على هامش نقاش مدونة الأسرة، انه نقاش قاصر، حيث يغلب عليه نقاش النسق التقليدي والنسق الحداثي عبر توهم صراع بينهما، علما ان النسقين عامل تخلف شامل يفرض على حركة المجتمع والدولة دورانا في حلقة: من سبق البيضة ام الدجاجة؟
ولذلك اخلص إلى أنه نقاش مقلوب، إذ جل أطراف المناقشة الأساسيين يناقشون من مواقع غير طبيعية مبنية على وهم الصراع بين نسقين هما عاملا تخلف حقيقيين، ولذلك ستبقى وظيفة النسق التجديدي باهتة لأنها اولا مبنية على حركة تاريخية وواقعية، ولأنها ثانيا تراهن على ارتفاع مستوى الوعي بها حتى تصبح تيارا علميا، له رصيده النخبوي والأكاديمي فضلا عن المجتمعي، يؤهله لأداء مهامه القيادية الإصلاحية والتغيرية الجذرية لاقامة قواعد العدل، والعدل هو جعل الشيء في مكانه الطبيعي خلاف الظلم.
انني هنا اذكر ان نقد التقليد ونقد الحداثة في آن واحد هو فتح أفق تجديدي يعيد بناء نقاش القضايا الكبرى والمصيرية على قواعد الحرية والعدل والكرامة، وهو ما يجنبنا ردود الفعل التي قد لا تحمد عقباها.
نعم، نتتلمذ للقدر وننتظر ماستسفر عليه صور تدافع لم نكن جزء منها، لكن لا يمنعنا ذلك من القيام بالواجب الشرعي، بل يجب أن يدفعنا إليه دفعا،  ذلك أن رجال التجديد الشامل أجيال ومراحل. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق