اتخذت البروباغندا Propaganda عبر التاريخ أشكالا متعددة وطرزا مختلفة، وشملت مجالات دينية وسياسية واقتصادية، وتسمّت بأسماء مختلفة بحسب المجال الذي تعمل فيه؛ فهي مرة تبشير، ومرة دعاية، ومرة ترويج… لكن الخيط الناظم الذي يحدد هدفها العام هو التأثير في المتلقي وتغيير نسق معتقداته وحثه عل العمل أو دفعه إلى الكسل… أما من حيث الآليات فهي تركز على الجوانب البلاغية الثلاث هي: الايتوس واللوجوس والباتوس. إذ تعمل على بناء صور للذات وإثارة أهواء المتلقي عبر وسائل وآليات حجاجية مختلفة، لكنها تقوم أساسا على الكذب والتضليل، والتحريف والتأويل الفاسد، والمقارنة مع وجود الفارق، وتزوير التاريخ وقلب الحقائق وتشويهها، وأحادية النظرة وضيق زاوية النظر، وتضخيم صورة الذات، وتبخيس قيمة الطرف الآخر…. أما من حيث الوسائط فهي تشغل كل المؤسسات الموجهة إلى الناس خاصة المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية…
وبما أن الإعلام أصبح أخطر مؤسسات التوجيه العام، خاصة بعد الثورة الفرنسية، فقد استُغلت كل منافذه لتحقيق البروباغندا بدءا من الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي والبرامج السياسية ونشرات الأخبار، مرورا بالأفلام السينمائية والرسوم المتحركة والمسلسلات التلفزيونية، والبرامج الفكاهية وبرامج المقالب…. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية سباقة إلى توظيف السينما والتلفزون في البروباغندا؛ إذ عملت لجنة الإعلام التي أسسها الرئيس ويلسن سنة 1917 لتسويغ مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى، على استغلال واسع للسينما، إلى جانب الصحف والبوستيرات… وسيستمر هذا الأمر مع كل الحروب التي ستنشأ لاحقا؛ كالحرب العالمية الثانية والحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والعراق وأفغانستان… حيث ستستثمر البروباغندا تقنيات مختلفة أهمها بروباغندا الفظائع وبروباغندا القوة … لكن الأخطر في الأساليب الجديدة هي أنها تتجاوز مخاطبة وعي المتلقي إلى التغلغل في لاشعوره وإعادة برمجته، والتحكم فيه من خلال التنميط والقولبة والتحبيط والتبليد…
ويمكن في هذا الصدد أن نقدم مجموعة من النماذج التي قدمتها بعض القنوات العربية خلال شهر رمضان كمسلسل “أم هارون” ومسلسل “فلانتينو” وبرنامج المقالب “رامز مجنون رسمي”…
سنركز في تحليلنا على هذا البرنامج الأخير، لما يحظى به من شهرة ونسب مشاهدة مهمة، ونقف قليلا عند سياقه التداولي الذي سيكون حاسما في كشف بنياتها الدلالية وسيرورات تشكّلها.
مما لا شك فيه أن الكثير من الدول العربية أصبحت رأس الحربة في مواجهة الربيع العربي ورياح الديمقراطية. أمّا عصا الحربة فتمتد من واشنطن إلى لندن وباريس… لكن مرمى السهم واحد هو إجهاض كل محاولة للتحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي لسببين اثنين؛ أولهما خوف هذه الأنظمة من عدوى الديمقراطية، وثانيهما رغبة القوى الاستعمارية في تنفيذ مخططات التقسيم والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية التي لا تنتعش إلا في ظل أنظمة فاسدة. وقد وظفت هذه الأنظمة ترسانة هائلة من وسائل الإعلام لتشويه الريع العربي وتسفيه أحلام الحالمين بالديمقراطية والعدالة، وأنفقت أموالا طائلة لتمويل برامج هدفها الإساءة للربيع العربي، والتحريض ضد داعميه، وتمرير رسائل التهديد المبطنة لكل من تسوّل له نفسه العزف على أوتار الحرية.
ومن البرامج التي تسير ضمن هذه الموجة، برنامج المقالب ” رامز مجنون رسمي” الذي ويعرض على شاشة MBC ويقدمه المثل المصري رامز جلال. وهو برنامج تعتمد أساسا على ما يسمى ب”البروباغندا السوداء” التي تخفي أهدافها وتضمرها في قوالب قد تبدو أحيانا مناقضة تماما لهذه الأهداف.
تبدو فكرة البرنامج بسيطة؛ حيث يستدعي المقدّم بعض المشاهير من عالم الفن والرياضة) في الغالب ينتقون من بين أولئك الذين يعانون من ضائقة مالية أو فضيحة أخلاقية أو تطغى عليهم الماديات وحب المال( ثم يربطون في كرسي ويعرضون للصعق بالكهرباء والرش بالماء والتطويف في الهواء والتخويف ببعض الحيوانات المفترسة….
قد يبدو البرنامج في ظاهره بريئا هدفه الأساسي هو التسلية والإضحاك، لكن تحليل المكونات اللغوية والسيميائية للبرنامج يكشف خطورة كبيرة تتمثل في تكريس ثقافة الاستبداد وتخويف المتفرج من المصير الذي يمكن أن يلقاه المعارضون. انه يقول ببساطة:” هذا ما يمكن أن يحصل لك إذا فكرت في الوقوف في وجه الاستبداد. انه نموذج مصغر showroom لغرفة التعذيب.
يكشف تحليل العنوان ” رامز مجنون رسمي” أشياء ذات بال. فهو عنوان لا يحتاج من المتلقي إلى فهم عميق، وسيرورات تأويلية معقدة، وبحث عن دلالات بعيدة، بل يقدم نفسه على طبق من ذهب، فلا يحتاج المتلقي إلا إلى استحضار بعض الدلالات الايحائية والرمزية لتصل الرسالة إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين أو ما يسمى بالفئة المستهدفة الهشة. انه يقوم على ثنائية دلالية بسيطة تكمم أفق التأويل، وتحصره في معاني محددة لكي لا يسرح المتلقي خارج الإطار الذي رسمه له البرنامج بدقة.
على المستوى اللغوي، تشير العبارة المسكوكة “مجنون رسمي” في الثقافة المصرية إلى من حصّل درجة عليا في الحمق، وتدخل كلمة “رامز” اسم المقدم في تجنيس لفظي مع كلمات من قبيل: “رامز ورمز ومرموز…” بحيث يصبح رامز رمزا للجلاد والمعذب السادي الذي لا يرقّ قلبه ولا يلين صدره، بالرغم من صرخات الخوف ونداءات الاستعطاف. بل يتعمد رامز الضحك لتحقيق الثنائية البنيوية ضحك/بكاء لتأكيد ساديته وتمرير الرسالة المرجوة وهي:” ضحكك واستمتاعك قد يتحول إلى بكاء وصراخ”. أما كلمة “مجنون” فتعني دلالاتها اللغوية كل من فقد عقله، وتعطلت عنده ملكة التفكير السليم، لكنها تحيل في العرف القانوني على من لا يحاسب؛ أي الذي رفع عنه القلم بينما تحيل الدلالة المعجمية لكلمة “رسمي” على كل ماله علاقة بالانتظام والمؤسساتية، لكنها الدلالة الغالبة لهذا المصطلح يشير إلى الدولة والنظام.
بناء على هذا التحليل اللغوي البسيط يمكن تصعيد الدلالة العميقة للعنوان إلى بنية سطحية على الشكل الآتي:” أنا الجلاد المعذب، ممثل الدولة وحامييها، فوق كل القوانين والأعراف، ولا احد يمكن أن يحاسبني على أفعالي”.
سيعمل “السيميوز”؛ أي آليات التشكل الدلالي؛ على تمطيط العنوان وتوسيعه ويظهر هذا المعنى على المستوى السيميائي في غرفة المراقبة، وملابس مقدم البرنامج، والكرسي الذي يثبت فيه الضيف، ومقدمة البرنامج التي تستقبله… إذ تحيل الغرفة على عالم التجسس والمتابعة والأجهزة الاستخباراتية، بحيث يظل المواطن دائما تحت رحمة المراقب الصارمة، وهذا يذكرنا برواية “1984” لجورج أورويل التي جعلت العالم تحت مراقبة كاميرات الأخ الكبيرBig Brother . كما انتقى المقدم اللباس العسكري الرمادي اللون بدلالاته الرمزية على السلطة والنظام والحيادية في المشاعر، والحذاء العسكري الثقيل، والنظارات السوداء التي ترمز إلى ظلام غرف التعذيب وظلمة الأجهزة الأمنية وسريتها، أما الكرسي فهو كرسي الاعتراف، في حين تمثل مقدمة البرنامج رمزا للإغراء والإغواء والميوعة، وتذكر المشاهد بعمليات الاستدراج التي تعرض لها الكثير من خصوم الأنظمة الاستبدادية لتصفيتهم الجسدية، بالإضافة إلى الرموز والصور الشيطانية التي أثثت فضاء القاعة، بما تحمله من دلالات القوة والمباغتة والخوف.
يباغت المقدم الضيف، كما يباغت رجال المباحث والمخابرات المتهم، وهي اللحظة التي يتم فيها الاعتماد على تقنية اللقطة القريبة Plan gros بحيث تقترب الكاميرا كثيرا من وجه الضيف لتصور علامات الانفعال والخوف والدهشة البادية على محياه.
بعد ذلك، يقف مقدم البرنامج ويصيح بأعلى صوته في عبارات دالة: “أنا في مملكتي وقانوني هو لي يمشي” وهو يتقمص بذلك صورة الأنظمة الاستبدادية التي تختزل الدولة في صورة الحاكم، الذي لا يقيده قانون، فلا مؤسسات تشرّع ولا أجهزة تراقب ولا قضاء يحاسب.
بعد ذلك يخبر المقدمُ الضيفَ بأنه ليس وحيدا، بل هو مسنود بفريق كامل، أي أن الحاكم يحكم بمفرده ولكنه محاط بفريق عمل كامل من رجال الجيش والشرطة والمخابرات والإعلام ورجال الدين ورجال الأعمال والقوى الدولية… ثم تبدأ حفلة التعذيب من صعق بالكهرباء، ورش بالماء البارد، وتعليق بالمقلوب، وتطويف، وتخويف بحيوانات خطيرة، وإغراق في الماء…الخ ويرفق كل هذا بالاهانة اللفظية التي تصل أحيانا إلى الانتقاض من خلقة الضيف؛ كمنخاره وأسنانه وصوته ولون بشرته، أو الاستهزاء بهيئته وملابسه وحركاته…
في نهاية البرنامج يطلق سراح الضيف وتفكّ قيوده، ليتقدم بنفسه إلى الهاوية ويسقط في حوض مائي، دون مراعاة الخطورة التي يمكن أن يتعرض لها الضيوف، وخاصة من كبار السن، والهدف هو ايهام المتلقي بأن الضيف أصبح مبرمجا؛ إذ تنتهي كل حلقات البرنامج التي عرضت في سنوات سابقة بمحاولة الضيف الانتقام من “رامز” مقدم البرنامج وضربه، وبأنه يمشى إلى حتفه بيده وإرادته دون ضغط من جهة أخرى.
بعد هذا التعذيب والاهانة ينتهي البرنامج برضا الضيف واستسلامه وابتسامته، وطلبه من الجمهور انتظاره على شاشة “MBC”، لمشاهدة الاهانة التي تعرض لها. وبما أن الجمهور يعرف أن الضيف سيأخذ نصيبا من المال جراء قبوله لعرض الحلقة، فان الرسالة تصبح واضحة ومباشرة ولكنها تسير على الأقل في ثلاث مسارات تأويلية متعاضدة وهي:
- من يعارض السلطة يتعرض للتعذيب الجسدي والنفسي؛
- لا تثقوا في المناضلين فكلهم يرضخون لإغراء المال؛
- هذا العالم تافه ولاشيء يستحق أن نناضل من أجله.